في عقد التسعينيات حين كنت فتى مولعًا بمتابعة الأشرطة الوثائقية، شاهدت فيلمًا وثائقيًّا حول جزيرة يتهددها المحيط بالغرق.
في عقد التسعينيات حين كنت فتى مولعًا بمتابعة الأشرطة الوثائقية، شاهدت فيلمًا وثائقيًّا حول جزيرة يتهددها المحيط بالغرق، ورئيسها الأسود ذو الأصول الإفريقية يخطب في شعبه ويوجه نداء إلى العالم لإنقاذ بلاده من الغرق قائلا: "أنقذونا.. نحن نغرق"، وفي أحد المساكن البسيطة لعاصمة الجزيرة كانت أسرة كبيرة تتحلق حول جهاز التلفاز الأبيض الصغير ومن بينهم أطفال يستمعون ببراءة ولا أدري إن كانوا يعون خطورة ما يسمعون، كما لا أدري أنا الآن ماذا حلّ بأولئك الأطفال وبكوخهم المتواضع وتلفازهم الأبيض ورئيسهم الأسود وجزيرتهم المنكوبة، مع أني أصبحت أعي بعد سنوات أن تلك الجزيرة كانت تعاني من تبعات الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية.
وهي لم تكن سوى بداية لسلسلة من نماذج ستتكرر، معيدةً قصة "أطلانطس" للوجود وللواجهة في كل مرة، ولكن هذه المرة كواقع وكمأساة مصورة وموثقة لا كخرافة وأسطورة من ابتداع مخيلة الإغريق الخصبة، فبسبب الإنسان وسلوكياته غير الرشيدة وغير المدروسة ها هي ذي صفحات من التنوع الثقافي ومظاهر الحياة الطبيعية والإنسانية تغرق رويدًا رويدًا. جزر "توفالو" الواقعة في الهادي بين أستراليا وجزر هاواي لا تحتاج إلا إلى ثلاثة عقود أو خمسة على أقصى تقدير كي تغرق وتختفي، وها هم سكانها يأتون على رأس أولى قوافل ما يسمى بلاجئي المناخ أو المهاجرين البيئيين، حتى إن نيوزيلندا سمحت باستقبال خمسة وسبعين مواطنا من سكان الجزيرة سنويًّا، سكان عاصمة جزر مارشال يخشون كلما ناموا ليلا من أن تفاجئهم الفيضانات التي أصبحت صفة ملازمة للجزيرة خصوصًا في فترة المد السنوية خلال شهري فبراير ومارس، بينما تبقى "كاريباتي" من أكثر الجزر تعرضا لخطر الغرق، أما جزر المالديف جنة شهر العسل للأزواج الغربيين المترفين قد لا توجد على الخريطة مع نهاية القرن ولن يتذكرها الأوروبيون والأمريكيون بعد أجيال إلا عندما يتصفحون ألبوم صور ذكريات العائلة لعطلة أجدادهم في الجزيرة المختفية، وقد لا تصدق أجيال قادمة في عالمنا العربي والإسلامي أن الرحالة ابن بطوطة قد زار يوما ما جزيرة غارقة في المحيط الهندي اسمها المالديف وتولى القضاء فيها وجاور سلطانتها التاريخية "السلطانة خديجة".
ومع أن 42 من الدول الجزرية الصغيرة شكّلوا تجمعًا لتحسيس العالم بقضيتهم وإيصال رسالتهم، فإن العالم -خصوصًا الدول المتقدمة- مشغول بقضايا أخرى كالانكماش الاقتصادي والإرهاب، أو حتى الكلاسيكو بين البارسا والريال، وآخر إبداعات دور الأزياء في باريس، في حين يلف المجهول مصير الكرة الأرضية ككل؛ فحسب دراسات حديثة قد تختفي غابات الأمازون (رئة العالم) بنهاية القرن. وحتى الدول المتقدمة مهددة في عقر دارها، فلو ارتفعت حرارة الأرض في أمريكا وحدها درجة واحدة فقط سيتحول الغرب الأمريكي إلى صحراء من جديد مثلما كان عليه قبل ستة آلاف سنة، وفي أستراليا يتزايد الجفاف وتزداد الحرائق الموسمية الهائلة خصوصا في فيكتوريا، وأوروبا اجتاحتها سابقا موجة حر خلّفت 30 ألف ضحية منهم 15 ألفًا في فرنسا وحدها، ولويزيانا ونيو أورلينز ونيويورك لا سيما جزيرة مانهاتن وشنغهاي والبندقية وهولندا كلها مهددة بالغرق، إضافة إلى أجزاء من لندن وجزر الساحل الشمالي لألمانيا.
ورغم ذلك يهتز العالم لعمل إرهابي يخلّف عددًا محدودًا من القتلى، ولا يتحرك بنفس الجدية والاستنفار لذوبان الجليد في غرينلاند والقطبين والهيمالايا والإنديز رغم أن أول توثيق لذوبان الجليد سجّلته وكالة "ناسا" كان سنة 1979 حين كان العالم مرعوبًا من حرب نووية بين القوتين العظميين أمريكا والاتحاد السوفييتي، ولكن تلك الحرب لم تقع بينما التغيرات المناخية حدثت وتأثيراتها لا تخطئها العين في كل مكان، ربما السبب هو أن التهديد البيئي هو تهديد صامت وهادئ ولا تتضح آثاره إلا بعد أن يتفاقم إلى حد كارثي مثل السرطان الذي ينخر في الجسم في صمت ولا يعلن عن وجوده إلا في مراحله المتقدمة عندما يكون الأوان قد فات، بينما الخطر الإرهابي مثلا هو تهديد صاخب ويُحدث صدمة قوية وملموسة النتائج والتأثيرات الفورية في حياة الناس وتغطيات وسائل الإعلام وأروقة المؤسسات السياسية ومصير صناع القرار.
والسؤال: هل الجهود المبذولة ترتقي إلى مستوى فداحة التحدي المطروح؟ الواقع يبين أن التغيرات المناخية تكاد تتجاوزنا وتصل لمرحلة اللا عودة، بينما وتيرة تصدي العالم بطيئة وغير فعالة حتى الآن، قمم ومنتديات تتوالى من ريو دي جانيرو إلى كيوتو وكوبنهاغن والدوحة إلى باريس حاليا وبعدها مراكش، والكل يتحدث عن قمة تاريخية في باريس وهو نفس ما قيل عن قمة الأرض في ريو بداية التسعينيات، ونفس ما تكرر عن بروتوكول كيوتو، ولكن ارتفاع حرارة الأرض المستمر يذيب كتلة التضخيم وحتى الأكاذيب بشأن صدق نيات العالم ككل خصوصا الدول الغربية وأمريكا تحديدا وحتى الاقتصاديات الناشئة في الصين والهند في الالتزام بخفض الانبعاثات الغازية وتبني اقتصاد أخضر وطاقات نظيفة وتنمية مستدامة تراعي التوازن الإيكولوجي، لن يحدث ذلك ما دامت دولة كالولايات المتحدة وصل الأمر بلوبي المصالح الصناعية فيها لتوظيف علماء يُشيعون فكرة مفادها أن ارتفاع حرارة الأرض هو نتاج لدورة طبيعية في حياة الأرض ولا دخل ليد الإنسان وللتصنيع بذلك ليناظروا ويكذّبوا أطروحة العلماء المتبنين لفكرة دور الإنسان في ارتفاع حرارة الأرض، ويصل الأمر إلى تهديد علماء الفريق الثاني بالتصفية الجسدية، حدث هذا خصوصا مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، ثم تأتي الولايات المتحدة التي كانت الملوّث رقم واحد عالميًّا آنذاك لترفض التوقيع على بروتوكول كيوتو، وحتى الصين الملوِّث الأول حاليا تبدي نيات وأفعالا أكثر صدى مما تفعل واشنطن.
التغيرات المناخية تحيلنا اليوم إلى نوع جديد من العنصرية أسمّيه "العنصرية البيئية" كدلالة على عدم عدالة الشمال مع الجنوب حتى في هذا الجانب، فبينما يتسبب الشمال الغني في النسبة الأكبر من التلوث نجد الجنوب الفقير في أغلبه هو من يتحمل تبعات ذلك، وبعد أن حقق الشمال ازدهاره على حساب البيئة والطبيعة ها هو ذا يطلب من الجنوب أن يراعي البيئة، ويحرمه من حقه المشروع في التقدم ومن دون أن يقدم له البدائل أو يساعده على امتلاك وتطوير التكنولوجيات الحديثة النظيفة، والجدل يستمر والتغيرات المناخية تستمر والكل نحو الهاوية في النهاية، فمن دون كوكب أرضٍ معافًى لا حديث عن اقتصاد أو تنمية أو نمو، وكما جاء في صفحة منظمة السلام الأخضر من كان يعتقد أن الاقتصاد أهم من البيئة فليجرّب أن يعد نقوده في ظل انعدام الأكسجين! ولذلك ذهب باري بوزان، الخبير في الأمن، إلى أنه من الأَولى اعتبار كوكب الأرض ككل موضوعًا مرجعيًّا للأمن، فدون سلامة كوكبنا لا وجود لدول ولا لدراسات أمنية ولا لأي شكل من أشكال الأمن.
في الوقت الذي يجتمع فيه أكثر من مئة وخمسين رئيس دولة وحكومة و40 ألف مشارك من الهيئات الرسمية والمدنية في باريس ويتناقشون حول قرارات ملزمة، لا يأبه بذلك البسطاء الذين أنهكتهم تغيرات المناخ، ولم يعد يهمهم ما يدور في عاصمة الأنوار ما دام المستقبل الحالك يخيّم على الفلاح المصري الذي تغرق دلتا النيل أمامه تدريجيا، وعلى ملايين البنغاليين الذين تغمرهم الفيضانات بسبب ذوبان جليد الهيمالايا، وعلى سكان القرى المتاخمة لجبال الإنديز الذين ينكد عليهم عيشهم ذوبانُ الجليد هناك، وعلى ما تبقى من سكان الأمازون الأصليين الذين يندثر موطنهم وتندثر ثقافتهم، وعلى أطفال الجزر الصغيرة الذين قد لا يكبرون في كنف أوطانهم الأصلية، وعلى الأفارقة الذين يضرب الجفاف أراضيهم ويتركهم فريسة للجوع والعطش، وعلى رعاة الماشية في السودان وجنوب السودان وإثيوبيا وأوغندا الذين تتآكل ماشيتهم مصدر ثروتهم وعيشهم ويتناحرون هم في ما بينهم للسيطرة على ما تبقى من مراعٍ محدودة، والمؤكد أن مشروع سفينة نوح الذي تطوره شركة يابانية لتوفير أرض بديلة لسكان الجزر المهددة بالغرق والذي قد يمتد ليشمل مناطق أخرى في العالم لن يكون حلا للكوكب الوحيد الصالح للحياة، وإذا كان يجب الوصول لقرارات ملزِمة في قمة باريس فيجب أن لا يكون هناك التزام سياسي واقتصادي فقط بل بالأساس التزام أخلاقي وإنساني، وهذا أمر مستبعد في عالم تعد الأخلاق والإنسانية فيه ترفًا فكريًّا وشعارات استهلاكية ليس إلا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة