إن الكاتبة الأميركية إديث وارتون لم تكن منسية حين أعاد المخرج مارتن سكورسيزي اسمها الى الواجهة بتحقيقه فيلمه الجميل «سن البراءة»
صحيح أن الكاتبة الأميركية إديث وارتون لم تكن منسية حين أعاد المخرج مارتن سكورسيزي، قبل سنوات، اسمها الى الواجهة بتحقيقه فيلمه الجميل «سن البراءة» انطلاقاً من روايتها الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه، لكنها كانت بعيدة من الأضواء بعض الشيء يكاد وجودها ينحصر على رفوف المكتبات وربما أيضاً في ذاكرة مدينة نيويورك التي كثيراً ما كتبت عنها. بل ربما كانت من أكثر الذين صوروا حياة طبقاتها الإجتماعية العليا كما كانت خلال القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين. وإذا كانت روايتا وارتون الأساسيتان «سن البراءة» و «بيت السرور» قد صوّرتا بشكل أخّاذ العوالم النيويوركية التي عايشتها وارتون، فإن ثمة من بين أعمال هذه الكاتبة «مجموعة قصصية» أصدرتها في العام 1924 تبدو أكثر قدرة على «التأريخ» الإجتماعي للمدينة من أي عمل آخر كتبته.
ومع أن الإطار الخارجي للعمل يقول لنا أنه يتألف من أربع قصص متوسطة الطول، فإن القصص غير مستقلة تماماً عن بعضها بعضاً في الحقيقة بل إنها مهيكلة هندسياً لتصف لنا أحوال مجتمع الطبقات النيويوركية العليا مرة في أربعينات القرن التاسع عشر في القصة الأولى، ثم بعد ذلك عوالم الخمسينات والستينات والسبعينات على التوالي.
ومع هذا فإن أحداث القصص ليست مترابطة ولا متعاقبة، حتى وإن كانت ثمة شخصيات محددة تظهر في أكثر من قصة. ولعل ما يجدر بنا الإشارة إليه هنا، هو أن نيويورك هذه المجموعة التي حملت عنوان «نيويورك العتيقة»، هي نفسها نيويورك رواية «سن البراءة» ناهيك بأن الرصد الأدبي والسبر الإجتماعي لعادات وحياة أهل الطبقة العليا النيويوركية، يبدو مرتبطاً كلياً بما في تلك الرواية. بل إن بعض النقاد لا يتورع عن وصف قصص المجموعة بأنها ملحقات للرواية «الأم».
تحمل القصة الأولى عنوان «فجر كاذب» وهي تتحدث عن الشاب لويس رايس الذي يرسله أبوه الثري هالستون الى أوروبا كي يشتري له مجموعة من اللوحات الفنية الحديثة. فالأب الذي جمع ثروة كبيرة من أعماله، يريد الآن أن يثبت مكانته في المجتمع داخلاً تاريخ المدينة كجامع للوحات. بالفعل يشتري الإبن ما تيسّر له من أعمال فنية مقابل ثمن باهظ. لكنه حين يعود بها الى نيويورك يتبين أنها ليست ذات قيمة حقيقية. في القصة الثانية، وهي الأطول وربما الأقوى بين قصص المجموعة، وتحمل عنوان «الصبية العجوز»، لدينا الصبية الحسناء ديليا رالستون التي تستقبل في منزلها العائلي ابنة عمها شارلوت المخطوبة والتي تستعد للزواج من خطيب لم تجرؤ على إخباره انه تربي طفلاً لقيطاً عُثر عليه يوماً.
تسارع ديليا الى إنقاذ الوضع بالإدعاء انها هي من يربي الطفل. ولكن لاحقاً سوف يدور صراع عنيف بين الصبيتين حول «أمومة» الطفل. أما القصة الثالثة وعنوانها «الومضة» فتدور من حول الشاب هايلي ديلان الذي كان تلميذ مدرسة حين اندلاع الحرب الأهلية. يُجرح هايلي في الحرب لينقل الى المستشفى الميداني في واشنطن كي يتماثل الى الشفاء. وهناك في المستشفى يلتقي شخصاً غامضاً يعلمه أشياء كثيرة عن الحرب والإنسانية. وفي النهاية، بعد سنوات، يكتشف هايلي أن ذلك الشخص الغامض لم يكن سوى الشاعر والت ويتمان.
وأخيراً في القصة الرابعة «يوم رأس السنة» تطالعنا الحسناء ليزي التي تقيم علاقة مع الشاب العازب هنري بريس لا ينظر اليها المجتمع بعين الرضا. أما الأحداث التي تدور من حول ذلك اليوم الإحتفالي فتأتي لتكشف لنا كم ان المجتمع مخطئ في نظرته السطحية وكم انه اساء الحكم على العلاقة بين الشابين.
من الواضح أن الأحداث في هذه القصص الأربع لم تكن هي ما همّ الكاتبة. كان همّها تصوير الأجواء والتطورات التي أصابت أهل المدينة الموسرين خلال تلك العقود الأربعة من السنين التي تطورت خلالها الذهنيات وتبدلت العادات والعلاقات. كان رسم الشخصيات في تفاعلها مع المدينة وحياة المجتمع وأحكامه هو الأساس بالنسبة الى وارتون وربما في شكل وأسلوب يذكران بالكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي عرف الكاتبة جيداً. بل يقول النقاد أنه عرفها الى درجة انه جعل منها شخصية غير محبوبة في روايته «البحث عن الزمن الضائع» من دون أن يسميها. ففي نهاية الرواية، يتحدث مارسيل بروست باسم الراوي، فيحكي لنا كيف انه حين أراد أن يشارك في «صبحية» آل غيرمانت الشهيرة، لم يتوجه إلى الدائرة الواقعة بالقرب من «فوبور سانت اونوريه» بل تلك الأخرى الواقعة في «الغابة». لماذا؟ لأنه بكل بساطة أراد ان يتفادى أي ذكرى تتعلق بـ «تلك الأميركية التي لا أهمية لها على الاطلاق بالنسبة إليّ».
القارئ العادي قد لا يهمه كثيراً أن يعرف ما إذا كانت تلك الأميركية حقيقية أم من بنات خيال المؤلف، ومن تكون إن كانت حقيقية. أما الخبراء في الأدب البروستي، فكانوا منذ زمن بعيد يعرفون أن «تلك الأميركية» ليست، في الحقيقة، سوى إديث وارتون. ولكن لماذا كان اشمئزاز بروست منها؟ بكل بساطة لأنه حدث ان دعاها ذات مرة لتناول الشاي معه في «كافي رويال» فرفضت، لأن الوقت الذي حدده كان بعد منتصف الليل. معارف بروست لم تكن مثل هذه الغرائب، منه تدهشهم. أما الكاتبة الأميركية الارستقراطية فوجدت في الأمر ما يصدمها فاستنكفت، وكانت النتيجة ان صارت واحدة من الطيوف الكثيرة التي تعبر روايته.
والحال أن إديث وارتون لم تكن، في ذلك الحين، في حاجة إلى قلم مارسيل بروست لكي يضفي عليها الشهرة. فهي كانت، عبر حياتها المدهشة ورواياتها التي تتحدث خاصة عن الطبقات العليا في المجتمع النيويوركي، عرفت كيف تجعل لنفسها مكانة لا تقل عن مكانة هنري جيمس.
مهما يكن، بعد ذلك بعقود عاد الحديث عن إديث وارتون. واكتشف الناس أدبها من جديد. وعرفوا أنها ماتت عام 1937، ولكن ليس في نيويورك كما كان الكثيرون يتصورون، بل في قصر كانت تمتلكه غير بعيد عن باريس. والحقيقة أنه مع إعادة إحياء ذكرى إديث وارتون، عادت لتقفز إلى الأذهان صور سيدات المجتمع المخملي الأميركي ولحظات التغير التي اصابتهن لدى احتكاكهن بالتقاليد الأوروبية العريقة، وكذلك الأثر الذي كان تحررهن يتركه في كل مرة يزرن فيها لندن أو باريس. فإديث وارتون اهتمت، مثلما كان حال هنري جيمس، الذي تقاطعت طريقها معه أكثر من مرة، وكان هو - كما يقال - من قدمها إلى المجتمع الأدبي الفرنسي، اهتمت إديث بالحديث عن الصدمة الحضارية على مستوى السلوك والاخلاقيات، حين راحت القارة القديمة تكتشف القارة الجديدة والعكس بالعكس.
والحقيقة ان هذا الأدب كان قد كف عن إثارة الاهتمام خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتالي نسيت إديث وارتون في وقت ثار الاهتمام فيه من حول أميركيين آخرين «تأوربوا» وكانوا أقل ارتباطاً بالطبقات العليا في المجتمع، وأكثر ديناميكية وتحرراً من إديث وارتون. ولكن منذ اللحظة التي عاد الاهتمام فيها يحلق من حول هذه الأخيرة، وينشر روايات لها أنيقة ومهمة مثل «سن البراءة» و «عند سعداء هذا العالم» و «الزواجات السعيدة» و «ايتان فروم»، التقطها القراء، وبدأوا يتحرون عنها وعن حياتها. فاكتشفوا ان وراء هذه الأديبة التي لا تقل عن بروست تمعناً في السلوك البشري، كانت سيدة تنتمي إلى الارستقراطية العليا، متحررة، ثرية، تعرف كيف تقيم الصداقات بسرعة مع كبار أدباء هذا العالم، إنما ضمن الشروط التي كانت هي تحددها.
وحكايتها مع مارسيل بروست ليست الحكاية الوحيدة التي تروى عنها. إذ يروى أيضاً ان سكوت فيتزجيرالد الذي كانت لا تكف عن ابداء اعجابها بأدبه، خطر له ذات مرة أن يزورها، لكنه لم يتنبه إلى أنه ثمل وان إديث وارتون لا تستسيغ مثل هذا، وهكذا ما أن قرع باب بيتها الباريسي ودخل، وفاحت منه رائحة الخمر، حتى أبدت له كل ضروب الاحتقار واللامبالاة، ما جعله يعود على عقبيه، ويحاول أن يعتذر لها في اليوم التالي. لكنها أبداً لم تقبل اعتذاره، فهي لئن كانت متحررة متسامحة في أدبها، كانت شديدة المحافظة في حياتها الشخصية، مثل كل أبناء طبقتها وبلدها في ذلك الحين.
المقال نقلاً عن صحيفة "الحياة" اللندنية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة