هل نحن فى حاجة لتجديد خطابنا الثقافي؟ وأجيب فأقول: نعم، نحن فى أشد الحاجة لهذا التجديد.
أواصل اليوم حديثى الذى بدأته يوم الأربعاء الماضى عن الملتقى الدولى الذى عقده المجلس الأعلى للثقافة لتجديد الخطاب الثقافى، فأسأل أولا: هل نحن فى حاجة لتجديد خطابنا الثقافي؟ وأجيب فأقول: نعم، نحن فى أشد الحاجة لهذا التجديد.
نحن نتعامل مع الثقافة كأنها ترفيه لا نتذكره إلا بعد أن نؤدى واجباتنا ونتحرر بعض الوقت من مشكلاتنا فنقرأ قصة أو نشاهد فيلما أو نسمع أغنية. لكن الثقافة ليست مجرد متعة أو تسلية، وليست نشاطا يمكن تأجيله أو الاستغناء عنه، وإنما هى أصل فى أى نشاط وفى أى عمل.
يجب أن يتعلم كل منا حرفة يكسب بها رزقه ويحصل بها على مكان فى المجتمع يشعر فيه بالانتماء ويفيد به ويستفيد، وهو فى هذا المكان يحتاج لثقافة يتعامل بها مع الآخرين ويعرف حقوقه وواجباته التى يشارك فيها غيره من المواطنين. والثقافة إذن هى أول شرط للحياة الإنسانية. إذا تخلفت الثقافة تخلفنا، وإذا فسدت فسدنا. ومن هنا وجب علينا أن نراجع أنفسنا ونجدد خطابنا الثقافى الذى يهيمن على حياتنا كلها فى السياسة والتربية، وفى الدين والأخلاق، وفى الفكر والعمل. علينا أن ننظر فى هذا الخطاب ونقوّم ما يمكن أن نجده فيه من اعوجاج، ونصحح ما نراه من خطأ.
وأنا حتى الآن أتحدث عن الثقافة حديثا عاما لا أظن أن أحدا يخالفنى فيه فيزعم مثلا أننا نستطيع أن نتحرك دون تفكير أو نتحاور دون لغة أو منطق. ونحن إذن متفقون على أن الثقافة حاجة جوهرية وشرط أول، فهل نحن متفقون بالمثل على أن خطابنا الثقافى لم يعد يلبى حاجتنا للحياة فى هذه العصور الحديثة، بل هو يصطدم بها دائما ويجعلنا ممزقين بينها وبين العصور التى مضت وانقضت؟
لقد تحررت العصور الحديثة من الماضى وانفصلت عنه حين اكتشفت أن كل شيء فى العالم يعمل وفق قانون ثابت نستطيع بما نملك من حواس وخبرات ومنطق وخيال أن نراقب عمله ونرى نتائجه ونسخره لتحقيق مطالبنا وتلبية حاجاتنا بشرط واحد هو أن نتحرر من الخرافة ونحتكم للعقل كما فعل الذين سبقونا إليه وانتقلوا به من عصور الظلام الى عصر النور، فهل يساعدنا خطابنا الثقافى الراهن على القيام بهذه الرحلة الميمونة أم أن هذا الخطاب لا يزال يسجننا فى الماضى ولا يزال يدفع بنا فى ظلماته ومهاويه؟
نحن لانزال نعتقد أن الجن يستطيع أن يمارس الجنس مع نساء البشر. ولايزال بعضنا يعتقد أن بول الإبل إكسير يشفى من أمراض مختلفة. ولا يزال الكثيرون يلجأون لقبور الأولياء وكتاب الأحجبة و«كديات» الزار.
وهناك من يظن أن الفقراء الأميين وحدهم هم ضحايا هذا الخطاب الثقافى الخرافي. والحقيقة ليست كذلك. لأن هذا الخطاب ثقافة منتشرة ومناخ عام. ونحن نذكر ذلك الجنرال العبقرى الذى اكتشف نوعا من الكفتة يستطيع به مرضى الكبد أن ينالوا الشفاء العاجل. ونذكر أن بعض المشايخ النجوم أكدوا لنا أننا لم نحصل على الانتصار الذى حققناه فى حرب أكتوبر إلا لأن الملائكة حاربت فى صفنا بعد أن تخلت عنا فى حرب يونيو وقاتلت فى صف الإسرائيليين!
باختصار، خطابنا الثقافى الراهن خطاب خرافي. ولأنه خطاب خرافى يفرض على أصحابه أن يؤمنوا بالوهم وينسبوا له ما يرونه وما لا يرونه فهو خطاب استبدادى يرفض الحوار، ويستخدم العنف، ويلجأ للتلقين والإملاء والإرغام. وكما نتبنى هذا الخطاب الاستبدادى فى حياتنا العائلية ومؤسساتنا التعليمية نتبناه أيضا فى حياتنا السياسية فنحبس من يعبر عن رأيه ونضطهد من يقول لنا: لا!
خطابنا الثقافى الراهن ليس خطابا ديمقراطيا، لأنه لا يقيس البشر بحقوقهم الطبيعية التى ولدوا بها وفى مقدمتها العقل والحرية، وإنما يقيسهم بما لهم من قوة مادية وامتيازات اجتماعية ومعتقدات دينية تتحالف كلها فى سلطة واحدة تفرض نفسها فرضا على المواطنين الذين يستسلمون لها لأنهم ضعفاء، فإن وقفوا فى وجهها لجأت إلى الإثارة والتهييج العاطفى واللعب بالشعارات الدينية مرة والشعارات الوطنية مرة أخرى أو بهما معا لتخدع الناس وتسلبهم حقهم فى السيادة التى تغتصبها منهم وتخلع عليها من الأسماء ما يتحول به الخطاب الاستبدادى إلى خطاب غوغائى أو ديماجوجي، كما يتحول الحاكم المستبد فى نظر الغوغاء إلى بطل قاهر وزعيم أسطوري!
عندما كنا نتمتع بمساحة من الديمقراطية فى العقود الثلاثة التى تلت ثورة 1919 كنا نسمى البرلمان مجلس النواب، لكننا بعد انقلاب يوليو الذى صادر حقنا فى انتخاب الحكام ومحاسبتهم وتغييرهم وتمكن من تسيير مظاهرات تهاجم مجلس الدولة ويهتف فيها الغوغاء والمرتشون «تسقط الديمقراطية!» ـ بعد وقوع هذا الانقلاب الذى أعادنا للوراء عدة قرون أصبح لدينا برلمان مزور يطلق عليه الذين أقاموه «مجلس الأمة» مرة، و«مجلس الشعب» مرة. كأن النظام فى التزامه بالديمقراطية لا يكتفى بأن يكون البرلمان تمثيلا للأمة بمن ينوبون عنها، بل يجعله مجلسا تمارس فيه الأمة سلطتها بنفسها.
والذى حدث أن الأمة التى أقيم لها هذا البرلمان لم يسمح لها فى ممارسة السلطة إلا بالتصفيق للرئيس وهو ينهال بشتائمه على خصومه باللغة الدارجة ويطلق شعاراته الوطنية الملتهبة التى انتهت بالهزيمة الساحقة التى أسلمتنا لرئيس آخر مؤمن أطلق علينا جماعات الإسلام السياسى لتواصل عهد الطغيان الذى بدأ بالانقلاب العسكرى فليس غريبا أن ينتهى بحكم الإخوان، لأن الطغيان يؤدى أوله إلى آخره. تختلف شعاراته، ويظل الأساس الذى يقوم عليه هو اغتصاب السلطة والانفراد بها، مرة لمواجهة أعداء الوطن، والأخرى لمواجهة أعداء الدين. ولأن الأساس واحد فالخطاب، خطاب الطغيان يستطيع أن يخلط بين الدين والدولة، بل يستطيع حتى أن يقدم الدولة الدينية فى صورة الدولة الوطنية.
ويبقى أن نسأل عن الابداع الأدبى والفنى وعن مكانه فى خطابنا الثقافى. والجواب أن الابداع شكل من أشكال الخطاب يعبر عنه بوعى وبقدر من الاستقلال يعطيه الحق فى النقد والمراجعة إذا توفرت له الحرية. وقد رأينا أن الحرية لم تكن متوفرة لنا طوال العقود الماضية، ولهذا تراجع الابداع الأدبى والفنى كما وكيفا، وأصبح تراجعه دليلا على تخلف الخطاب الثقافى الراهن، وعلى فقره وركاكته!
والسؤال الأخير: كيف نجدد هذا الخطاب الخرافى الاستبدادى الغوغائى؟ ومن هم أصحاب الحق فى ذلك؟ ومن هم أصحاب القدرة؟
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة