من خصائص الشريعة الإسلامية أنها جاءت لكل المكلَّفين على اختلاف قدراتهم
من خصائص الشريعة الإسلامية أنها جاءت لكل المكلَّفين على اختلاف قدراتهم، ولكنها في الوقت ذاته وردت تكاليفها بما هو مقدور للإنسان وفي استطاعته، والأصل في ذلك قول الله تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)[البقرة: 286]، ولذلك لا نجد تكليفا أو منسكًا من عزائم الشريعة إلا وله بديل أو ما نسميه في الفقه وأصوله رخصة لمن عجز عن القيام بشيء من العزيمة، رحمة من الله وتخفيفا على المكلف الذي يُعَدُّ محور التكاليف الشرعية، وتكلم الفقهاء عن معنى التكليف، وهو ما ورد عن الشرع من فعل الأوامر أو اجتناب النواهي بما فيه كلفة أو مشقة، ولكنهم قسموا المشقة إلى قسمين: الأول: المشقة المعتادة، وهي أصل التكاليف الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهذا النوع من المشقة هو ما يستطيع المرء تحمله دون إلحاق ضررٍ به، فمثلا ليس المقصود من فريضة الصوم تعذيب البدن أو إيلام النفس بالجوع والعطش ومنعها من طيبات ما أحل الله لها، بل المقصود صفاء روح الصائم والسمو به وتزكية الرحمة وكل صفات الخير لديه بالآخرين، وهذا ما جاء صريحا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن لم يَدَع قول الزُّور والعملَ به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
الثاني: المشقة غير المعتادة، وهي المشقة التي لا يتحملها الإنسان عادة، فتصيبه بالضرر ويختل معها نظام حياته فلا يستطيع القيام بأعماله النافعة مع اضطراب نفسه وعدم ضبط تصرفاته، وهذا النوع من المشقة لم ترد الشريعة به وإلا اضطربت حركة الحياة وأدى ذلك إلى الوقوع في العنت والإيلام، وهذا مرفوع في الشرع بقوله تعالى : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )[الحج : 78]، وقوله سبحانه : (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا )[النساء : 28]،
وفي كلا النوعين من المشقة لم يكلفنا الله تعالى بقصد أيٍّ منهما لذات المشقة، ومن أجل ذلك وردت الرُّخَص في الشريعة الإسلامية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه « ومما ورد من أمثلة في ذلك: الفطر في رمضان لأصحاب الأعذار، كالمريض والمسافر والشيخ الكبير والمرأة الحامل والنفساء والمرضع، ويقاس عليهم أصحاب المهن الشاقة التي يعسر الصوم مع مزاولتها . ولكثرة طروء الأعذار في الصيام، مع شدة تعلق المسلم بصيام الشهر وإن تضرر بذلك، كرر الله تعالى ذكرَ رخصة الفطر في آيتين متتاليتين من آيات الصيام، فقال عز وجل: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى «سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )[البقرة: 184]، ثم قال تعالى: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى » سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[البقرة : 185]. ويقرر الله سبحانه المبدأ العظيم في رفع الحرج عن خلقه فيما يكلفهم به، فيقول تعالى عقب تفصيل آيات الصيام وما ورد فيها من رُخَص: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). إن الأحكام الشرعية التي تكتنف صيام شهر رمضان وقيام ليله لتدلنا على ما يمكن أن نطلق عليه مبدأ : « الرفق بذوي الأعذار في حقوق الله لدى العباد « لعل الناس يتخلقون فيما بينهم بتلك الحقيقة القرآنية فيرحم القوي منهم الضعيف، ويعطف الغني على الفقير، ولا يطلب المرء من أخيه ما لم يستطعه، فينتج عن ذلك مجتمع تكتنفه الرحمة ويسود بين جنباته الرفق والمودة.
نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة