إن إضعاف الاتحاد الأوروبي سوف يساهم في تقوية الدعوة إلى ترسيخ الطابع الآحادي للنظام الدولي، أي التسليم بالزعامة الأمريكية له
عندما يتابع المرء الأجواء التي تخيم على بريطانيا قبيل الاستفتاء على مستقبل عضويتها في الاتحاد الأوروبي، يجد أن الجسم السياسي البريطاني بات منقسماً إلى تيارين رئيسيين: الأول يدعو إلى «البقاء»، أي بقاء بريطانيا في الاتحاد، والثاني يدعو إلى «المغادرة» أي خروجها منه. ومع اقتراب موعد الاستفتاء في الثالث والعشرين من شهر يونيو( حزيران) الحالي، يشتد الصراع بينهما خاصة عندما يتطرق إلى القضايا الرئيسية التالية: السيادة والنظام الدولي، الهجرة والمهاجرين، التعاون الإقليمي، الإرهاب، الديمقراطية.
بين الموضوعات المتعددة التي استأثرت باهتمام المشتركين في الجدال حول مستقبل بريطانيا في الاتحاد، خص المتناقشون مسألة أثر انسحاب بريطانيا المحتمل من الاتحاد على النظام الدولي. ونظراً لأهمية بريطانيا الدولية ولصلاتها التاريخية بالمنطقة العربية ولعلاقة هذا الموضوع بالأوضاع في المنطقة، فإنه يمكن القول إن لهذا النقاش والصراع بين التيارين الآثار المهمة في المنطقة العربية. ولسوف نلاحظ أيضاً أن للمواقف التي اتخذها التياران نتائج مهمة على صعيد المصالح العربية وعلى صعيد العلاقات الأنجلو-عربية.
إن الحض على «المغادرة» بحجة أن عضوية بريطانيا في الاتحاد تتناقض مع سيادة البلاد واستقلالها قد يكون في محله لو أن دعاة المغادرة يطبقون مبدأ التمسك بالسيادة والحفاظ كمعيار في علاقات بريطانيا مع سائر الدول والتكتلات الإقليمية في العالم. إلا أن تيار المغادرة يركز على العلاقات مع أوروبا، في نفس الوقت الذي يتجاهل فيه أمثلة عديدة على ثغرات مهمة في علاقات بريطانيا مع أطراف دولية أخرى وخاصة مع الولايات المتحدة.
هناك ثغرات من هذا النوع في العلاقة مع حلف الأطلسي حيث تمارس الولايات المتحدة دور المهيمن، كما تذكر مجلة «فوربس» (دوغ باندو 22/04/2013) و يرفض الزعماء الأمريكيون توسيع مشاركة الدول الأوروبية في قيادة الحلف. هذا الدور المهيمن خاصة في مجال استخدام السلاح النووي الأطلسي، دفع الجنرال ديغول عام 1966، بصفته رئيساًَ للجمهورية الفرنسية، إلى إعلان انسحاب فرنسا من الهيئات المشتركة للناتو، وطلب نقل مقاراته القيادية إلى خارج الأراضي الفرنسية.
إلى جانب مثال «الناتو» هناك أمثلة عديدة أخرى على نزوع الولايات المتحدة إلى الهيمنة على الآخرين وعلى المنظمات الدولية والإقليمية. من هذه الأمثلة المهمة على هذا الصعيد دور الولايات المتحدة في مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي) حيث ترفض واشنطن التخلي عن صلاحيات أعطيت لها عندما كانت في أوج قوتها الاقتصادية خلال الخمسينات، بينما تتمسك اليوم بهذه الصلاحيات من غير حق. وهناك ثغرات من نفس النوع على صعيد العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة كما ظهر أثناء الحرب على العراق عام 2013. فقد وجهت خلال الحرب انتقادات شديدة إلى رئيس الحكومة البريطانية لتبعيته المفرطة للرئيس الأمريكي جورج بوش.
إن تيار المغادرة لم ينتقد هذه الظواهر ولا طالب بتصحيحها كما يفعل الآن في موقفه من الاتحاد الأوروبي. هذا النهج في ازدواجية المعايير يدعو إلى الاعتقاد بأن الراغبين في المغادرة يفعلون ذلك لأسباب أخرى غير الخوف على السيادة القومية والحرص على الاستقلال. فما هي هذه الأسباب؟
يظن بعض المعنيين بالعلاقات البريطانية - الأوروبية أن أنصار المغادرة لا يمانعون في التنازل على قسط من سيادة بلدهم للولايات المتحدة حيث إنها تنتمي إلى نفس العائلة الأنجلو - سكسونية أو بالأحرى إلى «الشتات البريطاني» الذي يضم الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا ونيوزيلندا، هذا فضلاً عن عدد من دول الكومنولث. ولكن أنصار المغادرة لن يقبلوا بمشروع أوروبي قد يتطور إلى ما لم يصرحه به علناً آباء المشروع مثل جان مونيه، أي إلى قيام كيان فيدرالي أوروبي يضم بريطانيا ككيان تابع للسلطات الفيدرالية.
ويعتقد بعض محللي مواقف دعاة المغادرة، أن فريقاً من هؤلاء لا يريد حماية سيادة بريطانيا من وجودها داخل الاتحاد الأوروبي سواء كان فيدرالياً أو حتى مجرد كيان فيدرالي. بل يعتقد هؤلاء المحللين أن هذا الفريق يذهب في موقفه تجاه الاتحاد إلى حد معارضة استمراره حتى ولو خرجت منه بريطانيا، أي العودة إلى الستينات عندما كانت بريطانيا تسعى إلى قيام منطقة تجارة حرة قارية مناوئة للسوق الأوروبية المشتركة. وحتى في هذه الحالة فإن الهدف لن يكون إنجاح المنطقة البديلة بل عرقلة نهوض المشروع الأوروبي.
إن إضعاف الاتحاد الأوروبي سوف يساهم في تقوية الدعوة إلى ترسيخ الطابع الآحادي للنظام الدولي، أي التسليم بالزعامة الأمريكية له، وبالتالي في تخويل الولايات المتحدة المزيد من حرية الحركة على الصعيد الدولي كشرطي العالم، وكحكومة عالمية يحق لها اختراق السيادات الوطنية. سوف تكون الدول العربية من أوائل الخاسرين إذا ترسخت الآحادية الدولية بدلاً من التعددية. ولسوف تخسر هذه الدول ثلاث مرات: الأولى لأنها تتراوح بين الدول المتوسطة والصغيرة بحيث لا تملك القدرة على تعزيز مكانتها في مواجه القوى الكبرى. وثانياً لأن القوى الكبرى تتبع سياسة محابية ل «إسرائيل» على حساب الدول العربية، وثالثاً لأن الدول العربية تخلت تدريجياً عن واحد من أهم العوامل التي مكنتها من اكتساب شيء من الاحترام في المجتمع الدولي ألا وهو النظام الإقليمي العربي.
نقلاً عن صحيفة "الخليج" الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة