المشكلة أن منظومة التعليم فى مصر، خاصة منظومة التعليم الجامعى والعالى، قد أُسست على خلاف مفاهيم ومقومات ضمان الجودة
نصت المادة 19 من الدستور على أن «التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمى فى التفكير، وتنمية المواهب، وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه فى مناهج التعليم ووسائله، وتوفيره وفقاً لمعايير الجودة العالمية». والقصد من تركيز المشرّع الدستورى على ضرورة التمسك بمعايير الجودة العالمية أنها شرط لتحقيق كل نتائج التعليم وإنتاج آثاره الإيجابية على المواطن والوطن.
وكانت رؤية «السيسى لمستقبل مصر» قد أكدت الاتفاق التام مع النص الدستورى المشار إليه، وأضافت: «وكذلك رفع كفاءة العملية التعليمية عن طريق مراجعة المناهج التعليمية وأساليب التعليم والوصول بها إلى المستويات العالمية، حيث إن مستوى الخدمة التعليمية المقدمة فى مصر منخفض مقارنة بمستواها فى الدول النامية الأخرى»، «مع وضع نظام علمى لتقييم العملية التعليمية وفقاً للمعايير الدولية بما يضمن الارتقاء المستمر بجودة التعليم». وكان الهدف الرئيس من إنشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد أن تكون إحدى الركائز الرئيسية لخطة قومية لإصلاح التعليم فى مصر، وذلك باعتبارها «الجهة المسئولة عن نشر ثقافة الجودة فى المؤسسات التعليمية والمجتمع، وعن تنمية المعايير القومية التى تتواكب مع المعايير القياسية الدولية لإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية وتحسين جودة عملياتها ومخرجاتها على النحو الذى يؤدى إلى كسب ثقة المجتمع فيها، وزيادة قدراتها التنافسية محلياً ودولياً»، حسب ما جاء فى الموقع الرسمى للهيئة على الإنترنت.
ولكن المشكلة أن منظومة التعليم فى مصر، خاصة منظومة التعليم الجامعى والعالى، قد أُسست على خلاف مفاهيم ومقومات ضمان الجودة ودون الأخذ فى الاعتبار مسألة وجود هيئة خارجية (وطنية أو أجنبية) لتقييم الجامعات والتأكد من استيفائها الشروط والمقومات الواجب توافرها فى الجامعات الجديرة بالحصول على الاعتماد، ومن ثم تأكيد جدارتها بالاستمرار فى دورها التعليمى والبحثى والتنمية المعرفية، كل ذلك بالتوافق مع احتياجات المجتمع وبمواكبة التطور العلمى والمعرفى ومستجدات تقنيات التعليم فى العالم.
ومن أسف أن جهود تطوير التعليم الجامعى والعالى فيما عدا إنشاء هيئة ضمان الجودة قد انحصرت فى مجرد إجراء تعديلات متعددة على قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة 1972 ثم إصدار قانون الجامعات الخاصة رقم 101 لسنة 1992 والقانون رقم 12 لسنة 2009 المتعلق بالجامعات الخاصة والأهلية، ثم محاولات متكررة لإصدار قانون جديد لم تكلل بالنجاح عبر السنوات حتى اليوم!
إن محاولات تطوير التعليم الجامعى تتطلب أكثر من مجرد إصدار قانون جديد، بل من المتعارف عليه علمياً أن تبدأ فى الأساس بتقييم شامل للمؤسسات التعليمية ونظم التعليم والبرامج الأكاديمية والمناهج والمقررات وتكوين هيئات التدريس والبحث العلمى، ومستوى كفاءة القيادات الأكاديمية والإدارية ومعايير اختيارهم، والهيكل الطلابى ومعايير قبول الطلاب وأساليب التعليم والتقويم، ثم نوعية مخرجات المنظومة الجامعية. وبعد ذلك تتم إعادة هيكلة شاملة للنظام التعليمى ومؤسساته جميعاً، بدءاً من قمة النظام ممثلاً فى وزارة التعليم العالى والمجالس العليا للجامعات وصولاً إلى الجامعات ذاتها!
ومن المهم أن يتم تطوير الجامعات المصرية للوفاء بالالتزام الدستورى فى الأساس بتضمين مفاهيم ومقومات جودة التعليم فى صلب عملية إعادة هيكلة المنظومة الجامعية. وبهذا المنطق تصبح مقومات الجودة والاعتماد مكوناً أساسياً فى المنظومة وليس إضافة لمنظومة تم تشكيلها فى غياب تلك المقومات.
وتبدو المشكلة فى الأساس أن المنظومة الجامعية تسير فى طريق منفصل عن طريق الهيئة القومية لضمان الجودة والاعتماد التى تتحمل مسئولية نشر مفاهيم ومقومات الجودة ومطالب التأهل للاعتماد وضمان وجودها فى المنظومة الجامعية. وعلى سبيل التحديد فإن إنشاء الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية وفروعها، وتحديد أرقام المقبولين فى الجامعات ومعايير قبولهم وغيرها من القرارات المصيرية تنفرد بها وزارة التعليم العالى والمجالس العليا للجامعات ولجان القطاعات بالمجلس الأعلى للجامعات وذلك بعيداً عن التنسيق الواجب مع الهيئة المعنية بضمان جودة التعليم! ومن أسف أن هذين الطريقين لا يلتقيان!! ومن المؤكد أن تحقيق الالتزام الدستورى بمراعاة مستويات الجودة العالمية فى المنظومة المصرية للتعليم، وبخاصة التعليم الجامعى، يحتم أن يلتقى الطريقان!
إن تنفيذ الالتزام الدستورى بتوفير التعليم وفق مستويات الجودة العالمية يقتضى إنشاء «هيئة وطنية للتعليم» هيئة مستقلة تتبع مجلس النواب ويصدر بها قانون خاص، وتضم خبرات علمية فى نظم وتقنيات التعليم والتربية والتنمية المعرفية، كما تضم ممثلين لأصحاب المصلحة فى التعليم من أولياء الأمور وأعضاء الهيئات التدريسية والإدارة التعليمية فى مراحل التعليم المختلفة، وكذلك ممثلين للطلاب ومنظمات الأعمال ومنظمات المجتمع المدنى، كما تضم رئيس الهيئة القومية لضمان جودة التعليم. وتهتم الهيئة الوطنية للتعليم بوضع الرؤية العامة والفلسفة الوطنية للتعليم والمبادئ الرئيسية التى توجه فعالياته، وأسس ومعايير قياس كفاءته وتقييم مخرجاته، وتصميم الاستراتيجية الوطنية للتعليم شاملة مستوياته المتعددة (التعليم الأساسى وقبل الجامعى، والتعليم الجامعى والعالى)، ومجالاته التخصصية (تعليم عام، تعليم تقنى). كذلك تهتم بوضع المعايير الرئيسية للتعليم شاملة المؤسسة التعليمية وعناصرها المختلفة، وشروط وإجراءات الترخيص بإنشاء وتشغيل المؤسسات التعليمية ومقوماتها الرئيسية، ووضع معايير وتقنيات تقييم جودة المؤسسات والبرامج والمناهج التعليمية ومخرجات المنظومة الوطنية للتعليم، وشروط وإجراءات منح الاعتماد. على أن يتم إقرار هذه الاستراتيجية فى استفتاء شعبى حقيقى، ثم يجرى توثيقها فى مجلس النواب باعتبارها وثيقة وطنية لا يجب أن يمسها تغيير أو تعديل إلا بناء على استفتاء مماثل.
وفى ذات السياق، يصبح وجود وزارة للتعليم العالى أمراً لا لزوم له ويمكن إدماجها مع وزارة التربية والتعليم فى وزارة واحدة تُعنى بقضايا التعليم والتثقيف والتنمية المعرفية على المستوى الوطنى والاستراتيجى، وفى هذا الإطار يتحول المجلس الأعلى للجامعات المصرية الحكومية والخاصة والأهلية، برئاسة يتداولها رؤساء الجامعات أنفسهم، إلى هيئة للتنسيق بين الجامعات وتنمية أشكال التعاون والتكامل فيما بينها، ودعم جهود تطويرها وتحقيق انطلاقها إلى المجال الدولى والمنافسة على مراكز متقدمة فى تصنيفات الجامعات الأفضل فى العالم، دون أن يكون سلطة فوق الجامعات.
ثم يكتمل مشروع تطوير المنظومة التعليمية لتفعيل الالتزام الدستورى بإصدار قانون شامل للتعليم، بناء على اقتراح الهيئة الوطنية للتعليم، يترجم مبادئ وأسس وأهداف الاستراتيجية الوطنية للتعليم ويحدد اختصاصات ومسئوليات كل من عناصر المنظومة الوطنية للتعليم، ويقنن الضوابط والمعايير التى تضمّنتها وثيقة الاستراتيجية.
وإذا كانت الجامعات تفتقر إلى مقومات الجودة، فإن المعاهد العليا تمثل كارثة فى النظام التعليمى بكل المقاييس.
ولك الله يا مصر
*- نقلاً عن جريدة "الوطن" المصرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة