يعتبر ليو تولستوى أعظم روائى روسى فى القرن التاسع عشر وما تلاه وربما حتى اليوم لما يمتاز به أدبه من نظرة إنسانية شاملة
يعتبر ليو تولستوى أعظم روائى روسى فى القرن التاسع عشر وما تلاه وربما حتى اليوم لما يمتاز به أدبه من نظرة إنسانية شاملة وما تحفل به حياته من تطبيق عملى لكتاباته فقد تنازل ـ وهو النبيل الثرى ـ عن كل ممتلكاته من أجل الفقراء والمحتاجين بل إنه عمل بيده فى خدمتهم ومات وحيدا فقيرا. هو تولستوى الذى كتب «الحرب والسلام» و «أنا كارنينا» التى اعتبرها كثير من النقاد أعظم رواية فى التاريخ.
أما الشيخ محمد عبده فهو العلم الدراسى المجدد المستنير والذى سيبقى حيا فى القلوب المنيرة يضئ ويرشد إلى الطريق الصحيح. أعجب الشيخ محمد عبده والذى كان مفتى الديار المصرية فى ذلك الوقت (1904) بكتابات تولستوى الروسى الإنسانى فأرسل له تلك الرسالة: «أيها الحكيم الجليل.. مسيو تولستوى لم نحظ بمعرفة شخصك.. وكلنا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك.. وأشرقت فى آفاقنا شموس من آرائك.. ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة الفطرة التى فطر الناس عليها ووفقك إلى الغاية التى هدى البشر اليها فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويتم بالعمل ولأن يكون ثمرته تعبا ترتاح بها نفسه.. وسعيا يبقى به ويرقى به جنسه وشعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة.. واستعملوا قواهم ـ التى لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها ـ فيما كدر راحتهم وزعزع طمأنينتهم. نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد.. ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه.. وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه.. فكما كنت بقولك هاديا للعقول كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم.. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدى بها كان مثالك فى العمل..إماما يقتدى به المسترشدون.. وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء.. كان مددا من عنايته للفقراء.. وأن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك فى النصح والإرشاد.. هو هذا الذى سموه «بالحرمان» و «البعاد» فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أْعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم كما كنت فارقتهم. هذا وان نفوسنا الشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك وإنا نسأل الله أن يمد فى حياتك ويحفظ عليك قواك.. ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول.. ويسوق الناس إلى الاقتداء بك فيما تعمل والسلام .
مفتى الديار المصرية محمد عبده
ثم كتب الشيخ محمد عبده حاشية فى نهاية الخطاب. «إذ تفضل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنساوية فإنى لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها» ورد تولستوى على رسالة محمد عبده.
«صديقى العزيز» هكذا خاطبه تولستوى «صديقى العزيز» وهكذا خاطبه محمد عبده «أيها الحكيم الجليل» وهكذا خاطب كل منهما بفهم عميق مختصر بالعقل وبالقلب معا.. بالإنسانية يقول تولستوى فى خطابه للشيخ محمد عبده:
«صديقى العزيز»
لقد تلقيت رسالتكم الطيبة الحافلة بالمديح وها أنذا أسارع بالرد عليها مؤكدا لكم أولا السعادة الكبرى التى أعطتنى إياها إذ جعلتنى على اتصال برجل متنور.. حتى ولو كان ينتمى إلى إيمان يختلف عن إيمانى الذى ولدت فيه وترعرعت عليه.. ومع هذا فإنى أشعر بأن ديننا واحد ـ لأنى أعتقد أن ضروب الإيمان مختلفة ومتعددة. وإنى لآمل ألا أكون مخطئا إذ أفترض ـ عبر ما يأتى فى رسالتكم ـ بأننى أدعو إلى الدين نفسه الذى هو دينكم.. الدين الذى يقوم على الاعتراف بالله وبشريعة الله التى هى حب القريب ومبادرة الآخر بما نريد من الآخر أن يبادرنا به.. إننى مؤمن بأن كل المبادئ الدينية الحقيقية تنبع من هذا المصدر والأمر ينطبق على كل الديانات.. وإننى لأرى أنه بمقدار ما تمتلئ الأديان بضروب الجمود الفكرى والأفكار المتبعة والأعاجيب والخرافات.. بمقدار ما تفرق بين الناس بل تؤدى إلى توليد العداوات فيما بينهم.. وفى المقابل بمقدار ما تخلد الأديان إلى البساطة وبمقدار ما يصيبها النقاء تصبح أكثر قدرة على بلوغ الهدف الأسمى للإنسانية ووحدة الجميع. وهذا هو السبب الذى جعل رسالتكم تبدو لى ممتعة وفى النهاية ارجو أن تتقبلوا يا جناب المفتى تعاطف صديقكم.... تو لستوى. وقد كتب تولستوى فيما بعد وبعد إطلاعه على تعاليم الإسلام كتابا عن النبى محمد عليه الصلاة والسلام قائلا فيه:
لا ريب أن النبى محمد كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنسانى خدمة جليلة ويكفيه فخرا وخلودا أنه هدى أمة بأكملها إلى نور الحق وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام وفتح لها طريق الحياة الكريمة.وضمن تولستوى كتابه بعضا من أقوال الرسول الكريم:
> لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
> أفضل الصدقة إصلاح ذات البين وحفظ اللسان.
> آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر.. وإمام جائر.. ومجتهد جاهل.
> العلم إمام والعمل تابعه.. يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.
> إن أول خلق الله ـ عز وجل ـ العقل.. قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر.. فقال: وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا هو أحب إلى منك.. بك آخذ وبك أعطى.. وبك أثيب وبك أعاقب.
> زين الله السماء بثلاث: الشمس والقمر والكواكب وزين الأرض بثلاث: العلماء والمطر وسلطان عادل.
وقد قام بترجمة خطاب تولستوى عن الإنجليزية والروسية معا المترجم الشاب المستنير أحمد صلاح الدين ضمن كتابه الجديد «ورثة تولستوى»
نقلًا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة