كانت نتيجة الاستفتاء البريطاني، على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، يوم 23 يونيو الماضي، مفاجأة مدهشة لي
كانت نتيجة الاستفتاء البريطاني، على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، يوم 23 يونيو الماضي، مفاجأة مدهشة لي، كما كانت لكثيرين غيرى فى بريطانيا وخارجها، لم نكن نتوقع أن يحدث هذا التطور المهم فى حياة الإنجليز وسائر الأوروبيين، لمجرد أن رئيس الوزراء البريطانى قرر أن يعرض الأمر للاستفتاء، دون أن يكون لهذا مبرر قوي، بل مدفوعا بمصالح حزبية وقتية، وبعد أكثر من أربعة عقود من انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي.
كان الخبر، فضلا عن كونه مفاجئا ومدهشا، مؤسفا أيضا لكثيرين فى بريطانيا وفى الدول الأوروبية الأخري، لأسباب مختلفة تتعلق أساسا بآثاره الاقتصادية، وقد شعرت أنا أيضا، للوهلة الأولي، ببعض الأسف، لسبب لا يتعلق بالاقتصاد، ولكنى سرعان ما تبينت أن الأمر معقد، وأن من الصعب أن يتنبأ المرء بما سوف يسفر عنه فى النهاية، سواء لبريطانيا أو للعالم ككل.
كان أسفى فى البداية بسبب ما لابد أن يؤدى إليه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى (إذا قدر له أن يتم) من إضعاف أوروبا، وربما أيضا تقوية العلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة، وقد كان لدى أمل فى أن تؤدى زيادة قوة أوروبا بالمقارنة بقوة الولايات المتحدة، الى ما فيه مصلحة العالم ككل، وعلى الأخص العالم العربى الذى عانى (ولايزال يعاني) الأمرين، من السياسة الأمريكية و(الإسرائيلية) فى المنطقة، ولكنى أصبحت أميل الى الاعتقاد بأن ما حدث قد يكون مجرد مقدمة (تضاف الى مقدمات أخرى حدثت فى السنوات القليلة الماضية، من بينها الأزمة الاقتصادية والسياسية فى اليونان)، لتطور مهم فى العلاقات الدولية (وليس فى أوروبا وحدها)، قد ينبئ بتحول خطير فى أحوال العالم، يتجاوز بكثير بعض الأضرار أو المنافع المحلية فى هذه المنطقة أو تلك.
لابد أن نعترف فى البداية، بأن البعض قد يرى فيما حدث أمرا أقل خطورة بكثير من أن يستحق كل هذا الاهتمام، كل ما حدث (هكذا يمكن أن يقال)، ان52 % من البريطانيين صوتوا لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، فى مقابل 48 % فضلوا البقاء، الفارق ليس كبيرا، ولا يجب أن يفهم بمعنى أن البريطانيين لا يريدون أن يكونوا جزءا من أوروبا»، أضف الى ذلك أن مناطق مهمة فى المملكة المتحدة صوتت لمصلحة البقاء، منها مدينة لندن نفسها، ومنها اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وأن الدوافع التى أدت بكثيرين للتصويت بالخروج هى دوافع وقتية أو عاطفية لا تعبر عن تقدير عقلانى رصين لمزايا الخروج أو البقاء، مثل الغضب من المنافسة التى يتعرض لها العمال البريطانيون فى بعض المناطق من جانب المهاجرين الآتين من دول أوروبية أخري، أو حنين كبار السن من الانجليز لأيام شبابهم عندما كانت انجلترا مازالت محتفظة بنمط حياتها المتميز عن بقية القارة..الخ.
كل هذا صحيح، وهو يدعونا (بحق فى رأيي) الى عدم المبالغة فى التصفيق لما حدث، وكأنه مثال لفوائد «الديمقراطية»، بالمقارنة «بالحكم الاستبدادي»، إن الديمقراطية أفضل حقا من الحكم الاستبدادي، ولكن الاستفتاء البريطانى الأخير ليس من أفضل الأدلة على ذلك، بل قد يكون أكثر دلالة على غلبة العاطفة على العقل.
الخطير فيما يحدث فى بريطانيا ليس هذا بالضبط، بل قد يكون مغزاه الحقيقى هو المحنة التى تمر بها العولمة، وأن هذه المحنة قد تكون أكثر عمقا وأطول عمرا مما نظن، المغزى المهم لما حدث فى بريطانيا لا يتعلق بالديمقراطية، فالديمقراطية قد تصيب وقد تخطئ، وليس من الواضح تماما أنها أصابت هذه المرة، ولا يتعلق بالآثار المحتملة على الاقتصاد البريطاني، فما أكثر ما تعرض له الاقتصاد البريطانى من صدمات قبل وبعد انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي، ثم زال أثرها، المغزى المهم لما حدث يتعلق، فيما يبدو، بما تتعرض له العولمة من محنة فى السنوات العشر الأخيرة، وما يأتى به كل يوم جديد من دليل يذكر بوجود هذه المحنة وعمقها ومن ثم يرجح استمرارها.
كان إنشاء الاتحاد الأوروبى نفسه، فى صورته الأولى فى 1958 مظهرا من مظاهر العولمة: اقتصادات مختلفة، وثقافات متعددة تقترب أكثر فأكثر بعضها من بعض، فتفتح أبوابها لتبادل السلع ورءوس الأموال والأشخاص، وتتأثر ثقافة كل منها ونمط حياتها بثقافة الآخرين، وتواجه هذه الدول مجتمعة العالم الخارجى ككتلة واحدة، أو تحاول ذلك على الأقل، فيكون لها مجتمعة قوة أكبر مما كان لها وهى متفرقة.
للعولمة دائما فوائدها، ولكن لها أيضا أضرارها التى يعانيها دائما الطرف الأضعف أكثر مما يعانى القوي، هكذا كان الحال بالطبع فى ظاهرة الاستعمار، فهى أيضا صورة من صور العولمة، زادت الطرف القوى ثراء وقوة، ولكنها قهرت الأمم التى جرى استعمارها وأضعفت اقتصادها.
ولكن للعولمة أيضا مشكلاتها التى تحتاج إلى أساليب لعلاجها غير ما تحتاج إليه الدولة القومية المستقلة، عندما كانت الدولة المستقلة تمر بأزمة اقتصادية (كالذى حدث فى أوروبا وغيرها فى ثلاثينيات القرن الماضي) كان العلاج هو أن تتصدى كل حكومة لعلاج أزمتها، ولكن الأزمة فى ظل العولمة تحتاج الى تعاون أكثر من حكومة، بل وأحيانا تحتاج إلى ما يشبه الحكومة العالمية، وهذا أمر أصعب بكثير، ولم يتهيأ له العالم بعد، إذ مازالت الولاءات القومية حية فى النفوس، ومازالت المصالح القومية للدول المختلفة أكثر تعارضا وتصادما مما قد يبدو على السطح.
ظهر هذا جليا فى الأزمة المالية والاقتصادية التى اجتاحت العالم الغربى (وتأثرت بها بالطبع بقية الدول)، ابتداء من سنة 2008، ومازالت معنا حتى الآن، تهاوت معدلات النمو، ومعدلات التجارة الدولية، وارتفعت معدلات البطالة، واشتد الميل الى الهجرة من دولة لأخري، واشتد الشعور بالمرارة لدى كل شعب يرى مهاجرين من شعوب أخرى ينافسونه فى لقمة عيشه، ولكن أين الحكومة العالمية التى تعيد الأمور الى نصابها؟ بل وأين هى حتى الدرجة الكافية من اتفاق الآراء بين الدول التى يتطلبها علاج مثل هذه الأزمات؟
كان لابد، فى ظل أزمة كهذه، أن يقوى من جديد الشعور القومي، وتستيقظ الولاءات القومية أو المحلية، وأن تخطر فكرة الانفصال لدولة بعد أخري، ففى ظل ضعف العولمة لابد أن تعود ذكريات أجمل عن الدولة القومية المستقلة، وأظن أن هذا هو بالضبط ما حدث فى بريطانيا مؤخرا، وأدى الى نتيجة الاستفتاء الأخير، ولكنى أعتقد أيضا أن القوى التى دفعت أوروبا والعالم الى المزيد من العولمة، لابد أن تنتصر فى النهاية، كما انتصرت دائما فى النهاية، سواء كان هذا ينطوى على خير للعالم ككل أو شر.
* نقلاً عن جريدة "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة