"أكشاك الصحف" يُلازمها الحنين.. ويهددها الهاتف الذكي
الميديا الحديثة كان لها تأثيراتها على الصحافة الورقية.. حدود هذه التأثيرات وحجمها تتفاوت بين باعة الصحف وأصحاب أكشاك الجرائد
"اقرأ الحادثة.. جرائد.. جرائد" هتافات تنطلق من حناجر باعة الصحف والمجلات الورقية في زمن كانت المنصة الأولى للإعلام هي الصحف الورقية. في أقل من عقد تطورت الأمور بسرعة مذهلة، مهن كاملة مهددة بالغياب والاندثار التام، الإيقاع اللاهث لكل جديد تشهده البشرية يتتابع في غمضة عين، الثورة الرقمية "الديجتال" زلزلت عروش الصحف الورقية وأدت فيما أدت إلى تهديد "أكشاك الصحف والجرائد" ولو إلى حين..
بحس "نوستالجي" يمر على بال "عم عادل" طيف صاحب نوبل نجيب محفوظ الذي كان يعبر من كورنيش النيل ليشتري الصحف صباح كل يوم ليلتهمها جميعًا مع فنجان قهوة وآخر على مقهى "علي بابا " بالتحرير، وكذلك توفيق الحكيم الذي كان يُرسل "البواب" مع طلوع الشمس ليشتري من جده "مؤسس الكشك" كل جرائد الصباح.
لن يفاجئك "عم عادل" بقوله إن كشك الجرائد الذي يعمل فيه "أبا عن جد" يمر بأسوأ مراحله منذ تدشينه عام 1960، يقولها وهو يتكئ على جذع شجرة عملاق مائل اتخذ منذ التأسيس مقرا لـ"كشك" جرائده الكائن بحي جاردن سيتي القاهري العريق.
عم عادل، 58 عاما، يختصر لك المسألة، جيل قديم من القراء الذين لا يزالون يحتفظون بقيمة الجريدة الورقية في قلوبهم، وغالبا هم جمهور الصحف القومية كالأهرام والأخبار، وجمهور آخر وصفه بـ"أسير الموبايل" ويقصد به متصفحي الجرائد والمواقع الإخبارية بواسطة تقنيات الهاتف الذكي، وهؤلاء على حد تعبيره لا يشترون الصحف من الأساس، وهم جيل العشرينيات وبداية الثلاثينات، كما يقول.
في "كشك" الجرائد، وإلى جانب الصحف، ستجد مجلات وكتبا دينية وروايات معظمها مصنفة ضمن الأعلى مبيعا، يعلق عم عادل عليها باعتبار أن كثيرا منها "ليس بالضرورة الأعلى قيمة أدبيا" واعتبر أن المسألة لها علاقة بخريطة توزيع تلك الكتب التي تستهدف إلى جانب المكتبات "أكشاك" الجرائد الرئيسية.
أشار كذلك إلى مجموعة الصحف الأجنبية كالجاردن والفاينانشال تايمز وغيرها، يقول إن جمهورها ما زال محدودا، وهو جمهور من مستوى ثقافي واقتصادي رفيع، وغالبا من فئة عمرية متقدمة، وهي فئة لبعض زبائنه الذين يتعاملون معه منذ سنوات طويلة.
"يشترون جريدة واحدة بالكاد" يقولها عم عادل، ناعيا الحال حيث كان الزبائن قبل أكثر من عشر سنوات يشترون في الصباح نحو ست جرائد ما بين يومية وأسبوعية ليتصفحوها على القهوة المجاورة، وهو ما لم يعد يحدث سواء للظرف الاقتصادي أو على حد تعبيره "لأنهم يشاهدون الأخبار وتحليلاتها في برامج التوك شو في المساء".
يتذكر قبل سنوات صباح كل يوم جمعة "طوابير" الزبائن الذين كانوا يتهافتون لشراء عدد جريدة "الأهرام" لقراءة مقال "بصراحة" للراحل محمد حسنين هيكل، و"بريد الجمعة" لعبد الوهاب مطاوع، يتذكر اللقطة ويترحم على أيامها، يبتسم مستعبرا، يعلم أنها لن تعود.
في الحمراء بلبنان.. لن يموت الورق
لا يمكن لأي شخص كان، أن يزور شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية بيروت، دون أن يمرّ على بائع الصحف محمود أبو الحسن.
بعد 25 عاماً من مكوثه في إحدى زوايا الشارع، تحوّل محمود إلى علامة ثقافية من علامات الشارع الأشهر في بيروت، أصبح الأكثر شهرةً على صعيد بيع الصحف. يزوره قاصدوه يومياً، وتوطدت علاقات صداقة معهم.
داخل كشك رمادي صغير، يجمع محمود يومياً ما تيسّر من الصحف اللبنانية، ومعها مجلات محلية وعربية. يؤكد أنه يتعاون مع شركة خاصة، تتولى توزيعها عليه.
يجاهر في الحديث على أنه الأقدم في الشارع، ويروي أنه ورث المهنة عن خاله الذي كان يساعده في بيع الصحف. يستمتع وهو يسرد حكايته مع تلك المهنة. منذ 25 عاما وحتى اليوم، يداوم في كشكه الذي لا يفارق زاوية الشارع. يحضر عند السابعة والنصف صباحاً ويغادر عند الخامسة والنصف من بعد الظهر. أما زبائنه فيتنوعون بين أطباء وموظفي المصارف المجاورة وأساتذة ورواد مقاهي الحمراء.
لا يجد نفسه خارج شارع الحمراء. عايش الحروب الماضية. يستذكر الحرب اللبنانية التي لم تمنعه من مزاولة مهنته. أما أيام حرب تموز الإسرائيلية على لبنان عام 2006، فلا تفارق ذاكرته، خصوصاً أنه حقق حينها رقماً كبيرا في المبيعات.
لكن ماذا عن وضع مبيع الصحف اليوم؟ يربك السؤال محمود ويقلقه. برأيه، تراجع المبيع بنسبة 80 في المئة. يسترسل بالكلام عن زبائنه وكأنه لا يريد التحدث عن واقع الصحف اليوم. تقاطعه سيدة في العقد الرابع من عمرها. للحظة، تعتقد أن السبب وراء مقابلة محمود الصحفية يعود إلى نيته في مغادرة المكان. يصرخ الأخير في وجهها معترضا "لوين بدي فل"، فبرأي محمود "الصحف خالدة، ولن تموت، فالحياة من دون الصحف كيف ستستمر؟".
هل يفكر محمود ببيع الدخان أو السكاكر إلى جانب الصحف، ليحسن وضعه المادي في ظل الأزمة؟
لا يرحب بهذا السؤال. مرة جديدة يرفض حقيقة زوال الصحف، وينهي الحديث "مرّ 25 عاما على وجودي هنا وأنا أنتظر 25 عاما أخرى".
aXA6IDMuMTcuMTY2LjE1NyA= جزيرة ام اند امز