جرابلس، هي مدينة سورية تقع على نهر الفرات، وهي أول مدينة يدخل عبرها النهر، تبعد 125 كيلومتراً شمال شرق مدينة حلب
جرابلس، هي مدينة سورية تقع على نهر الفرات، وهي أول مدينة يدخل عبرها النهر، تبعد 125 كيلومتراً شمال شرق مدينة حلب. وجرابلس هي مدينة تاريخية، هي كركميش التاريخية عاصمة الحثيين التي تعود إلى خمسة آلاف سنة. هي مدينة اشتهرت هذه الأيام لأن تركيا قررت فجأة دخولها وتسليمها لمجموعات من المسلحين المعتدلين والمتطرفين، بينهم الجيش السوري الحر ومجموعة عماد الدين زنكي، التي ذبح أفراد ينتمون إليها الطفل الفلسطيني.
جرابلس كانت الوجهة الثانية بعد مدينة منبج لقوات سوريا الديمقراطية الكردية، المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تشكلت رسمياً في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 في محافظة الحسكة، شمال شرق سوريا، وكان الهدف هو إنشاء جبهة عسكرية موحدة شمالي سوريا لطرد تنظيم «داعش» وجبهة النصرة. وتضم هذه القوات نحو 27 وحدة عسكرية تشمل ميليشيات كردية وعربية وسريانية وأرمينية وتركمانية، عمودها الفقري هو وحدات حماية الشعب الكردية، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، هذه القوات متهمة بالتعامل والتنسيق مع الجيش السوري. ومن هنا كان استهداف تركيا لها لمنع تمدد القوات التركية لئلا تصبح محاذية لحدودها.
استغرق هجوم قوات سوريا الديمقراطية على منبج لتحريرها حوالي الشهر، بينما تمكنت تركيا من احتلال جرابلس خلال يوم، وروجت في وسائل الإعلام أن الجيش السوري الحر هو الذي اقتحمها واحتلها، بالتعاون مع مسلحين تم تدريبهم وتأهيلهم في معسكرات تابعة للجيش التركي، وينقسمون إلى شقين، قوات سورية من أصول تركمانية «كتائب السلطان مراد التركمانية» وتم منحهم الشارة الزرقاء، وقوات سورية من الجيش الحر «فيلق الشام» و«كتائب حمزة» و«كتائب الزنكي» وتم منحهم الشارة الحمراء، في تمييز لم تُفهم أسبابه العسكرية، وقدرت وسائل إعلام تركية إجمالي هذه القوة ب1500 جندي.
وبنظرة سريعة لهذا التشكيل نكتشف المتناقضات التي تسوده، فالمفترض أن قوات الجيش السوري الحر هي قوات معتدلة، بينما فيلق الشام وكتائب حمزة وكتائب الزنكي قوات متطرفة. بينما ينفي الطرف الآخر المتمثل في قوات سوريا الديمقراطية وحلفاء النظام السوري أن يكون الجيش السوري الحر من ضمن القوات المهاجمة. وإذا صدقت التصريحات التي نقلت عن النقيب مصطفى أبو محمد، القائد في فيلق الشام، من أن قوات «الجيش الحر» هي التي سيطرت على جرابلس، معرباً عن عميق تقديره للدعم الذي قدمته تركيا لتحريرها، وأن الجيش الحر سيواصل القتال ضد المنظمات الإرهابية في المنطقة، مثل «داعش» والقوات الكردية وهكذا فإن الجيش السوري الحر أصبح متورطاً حتى النخاع في حربه ضد الأكراد، وهذا ما تريده تركيا. بمعنى أنها ترغب وتخطط لتشكيل جبهة لمحاربة الأكراد ومنعهم من تأسيس كيان لهم يسميه البعض دولة كردستان الكبرى المستقلة، وإذا ما عجزت فإنها ستعود للتحالف مع «داعش» لمحاربة الأكراد، وبهذا فإن مهام الجيش التركي ليس القضاء على «داعش» وإنما على أحلام وطموحات الأحزاب التركية المقاتلة.
يتخوف كثيرون من هذه الدولة، ويعتقد البعض أنها في حال إنشائها، ستصبح كياناً يشبه الكيان «الإسرائيلي» من حيث وجوده في قلب الوطن العربي، لأن هذه الدولة ستقوم على أراض مقتطعة من تركيا وسوريا والعراق وإيران، فهي ستمتد من ديار بكر في تركيا إلى تبريز في إيران، وفق خريطة الدم التي سربتها الاستخبارات الأمريكية منذ أكثر من عقد ونصف من الزمان، وهذا ما قد يشجع «إسرائيل» على تحقيق تلك الدولة إمعاناً في تفتيت الدول العربية.
وفي الواقع، فإن ردود الفعل العربية حتى كتابة هذه السطور كانت خجولة بما فيها رد فعل النظام السوري، الذي طالب أي دولة تريد محاربة «داعش» بالتنسيق معه، وإلا سيعتبر دخول قواتها غزواً وانتهاكاً للسيادة والقانون الدولي.
ويبدو أن اللعبة خرجت من يد النظام بشكل خاص ومن يد العرب بشكل عام، ويبدو أيضاً أن الجانب الروسي لا يمانع من قيام تركيا باحتلال جرابلس ثم منبج وقد يسمح بوصولها إلى حلب. وهناك معلومات متداولة تؤكد أن «داعش» لم تقاتل الجيش التركي ومن معه في جرابلس، بل انسحبت جنوباً إلى مدينة الباب. وكأن هناك ما يشير إلى لغز ما في عملية التوغل التركي والانسحاب «الداعشي».
مواقف العرب كما أسلفنا غير واضحة تجاه تأسيس كيان كردي أو إقامة دولة كردستان الكبرى.
مواقف العرب كما أسلفنا غير واضحة تجاه تأسيس كيان كردي أو إقامة دولة كردستان الكبرى.
لقد بات من الواضح أن هناك حرباً بالوكالة تدور رحاها في سوريا، وتقترب من وصفها بالحرب الباردة بين دول ذات نفوذ، أو تسعى ليكون لها نفوذ في المنطقة، فدخول تركيا ومن قبلها روسيا على خط القتال المباشر يعكس طبيعة هذه الحرب، ويسرق الأدوار مع المتقاتلين على الأرض، وبالتالي، فإن عدم تسوية القضية السورية حتى الآن، يعود إلى عدم اتفاق مصالح القوى المغذية لهذه الحرب، التي لا تكترث لتدمير سوريا وتهجير وقتل الشعب السوري، وإنما لتحقيق مصالح فقط.
الواقع على الأرض وطبيعة التحالفات قبل الهجوم على مدينة جرابلس يختلف عن واقع ما بعد الهجوم، لأن تركيا وحلفاءها يزمعون التوجه إلى حلب، ما يعني أن الحرب مرشحة للتوسع. ومن جهة أخرى، فإن تركيا مرشحة للغرق في المستنقع السوري كما قالت تصريحات سورية رسمية، إذا ما صدقت نواياها في مقاتلة «داعش»، الأمر الذي يعني المزيد من التهاب المنطقة، وربما الفلتان العشوائي، أو السيطرة السريعة، وإعادة ترتيب الأوراق. والأيام القادمة ستكون حبلى بالمفاجآت.
نقلًا عن صحيفة الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة