تذكرت مؤخرا قولا شهيرا لكارل ماركس، جلب عليه غضبا شديدا من دعاة القومية، وهو قوله: «إن العمال لا وطن لهم»
تذكرت مؤخرا قولا شهيرا لكارل ماركس، جلب عليه غضبا شديدا من دعاة القومية، وهو قوله: «إن العمال لا وطن لهم»، كان ماركس، يقصد أن العمال لا يحققون فى الواقع أى مصلحة تذكر مما يحققه وطنهم من تقدم، إذ يذهب النفع كله لحفنة صغيرة من الرأسماليين، ومن ثم لا يجب أن نطلب من العمال (أو نتوقع منهم) أن يشعروا بالولاء للوطن أو بالاستعداد للتضحية من أجله.
عندما تذكرت هذا القول، تذكرت أيضا قولا آخر يؤدى معنى مشابها، صدر عن سياسى مصرى شهير فى بدايات القرن الماضي، وكان من الاقطاعيين من ذوى الملكيات الزراعية الكبيرة، إذ قال فى تبرير انفرادهم بالتفاوض مع الانجليز، دون بقية الأحزاب وطبقات الشعب، إنهم (أى الاقطاعيين) هم «أصحاب المصالح الحقيقية» فى مصر، أى أنهم، بما أنهم يملكون الجزء الأكبر من ثروة مصر، هم الذين يحق لهم، دون غيرهم، الحديث باسمها، المعنى هنا لا يختلف كثيرا عن المعنى الذى قصده ماركس بقوله إن العمال لا وطن لهم، وإن كان السياسى المصرى يتكلم عن الطبقة الأخري. تذكرت هاتين العبارتين وأنا أفكر فيما يمكن أن يكون قد حدث لعاطفة الولاء للوطن، فى مصر، بعد مرور أكثر من نصف قرن من الحراك الاجتماعي، السريع أحيانا والبطيء أحيانا، بما ينطوى عليه هذا الحراك من تغير فى الموقف النسبى للطبقات المختلفة، وأثر ذلك فى الشعور بالولاء للوطن، نبهنى الى ذلك ما لاحظته من تغيرات فى موقف بعض الشرائح الاجتماعية من بعض القضايا الوطنية، التى كانت تؤخذ كمسلمات فى الخمسينيات والستينيات، ثم تجرأ البعض على التساؤل عن صحتها، فى السبعينيات والثمانينيات، ثم ضعف الحماس لها وقلت الإشارة إليها فى التسعينيات والعشر سنوات الأولى من القرن الجديد، ثم ظهرت بعض الأمثلة على تحديها والخروج عليها بعد ذلك.
سألت نفسى عما اذا كان للتغيرات الطبقية فى مصر دور فى هذا التحول، مع ملاحظة أن ضعف الولاء للوطن فى هذه الحالة لم يكن من نصيب العمال أو محدودى الدخل، بل ظهر فى فئات أعلى دخلا. حاولت أن أستعيد فى ذهنى موقف الشرائح الاجتماعية فى مصر، فى الخمسينيات والستينيات، من قضايا مثل القومية العربية، أو حلول النفوذ الأمريكى محل الاحتلال البريطاني، أو ما لحق الفلسطينيين من ظلم نتيجة لقيام دولة إسرائيل، كانت هذه أهم قضايا الوطن فى ذلك الوقت، وكانت المواقف التى تعبر عنها الدولة من هذه القضايا، حينئذ، تعبر فى الأساس عن مشاعر الطبقة الوسطى المصرية (التى كانت لاتزال صغيرة نسبيا)، وتسكن المدن (معظمهم فى القاهرة والإسكندرية)، وتلقت مستوى من التعليم لا بأس به فى المدارس والجامعات، (قبل أن يحل التدهور الشديد فى كلا النوعين من التعليم)، وتتعرض لمستوى راق نسبيا فى الإعلام (كانت الصحف مازالت مليئة بمقالات كبار الكتاب، والإذاعة تلتزم بلغة عربية صحيحة، والتليفزيون لم يكن موجودا أصلا أو حديث العهد جدا.
أظن أن هذا كله كان له أثر مهم فى تشكيل طريقة فهم الطبقة الوسطى للقضايا القومية، وفى تحديد نوع ودرجة الولاء لها.
لم تمكن الطبقتان الأخريان (الفلاحون والعمال من ناحية، وعلية القوم من المتشربين بنمط الحياة الغربية، من ناحية أخري)، بعيدتين بالطبع عن المشاعر القومية، ولكن لابد من الاعتراف بأن كلا النمطين من الحياة (صعوبة الحصول على الرزق من ناحية، وصعوبة التخلى عن متع الحياة من ناحية أخري)، كانا لابد أن يضعفا من حماس هاتين الطبقتين للقضايا القومية، إلا فى حالات استثنائية ونادرة.
لقد أشرت فى كتابات سابقة الى أن ما حدث من حراك اجتماعى فى الستينيات والسبعينيات، سواء من حيث سرعة أو نوع الدخل والثروة الجديدة التى ولدت هذا الحراك أو صاحبته كان له آثار عميقة على كثير من مظاهر السلوك الاجتماعى للطبقة الوسطى المصرية (كالتطرف الديني، والموقف من الهجرة ومن الوظيفة الحكومية، وومركز المرأة فى المجتمع، والتغير الذى لحق الموسيقى والغناء..الخ)، ولكنى لم أتعرض لأثر الحراك الاجتماعى على الشعور بالولاء للوطن، ربما لأن التغير فى هذا الأمر يحتاج الى وقت أطول لكى يظهر بوضوح، فما الذى حدث بالضبط منذ ذلك الوقت؟
لقد أتت بعد فترة الحراك الاجتماعى السريع، فى الستينيات والسبعينيات، فترة من تباطؤ هذا الحراك ابتداء من منتصف الثمانينيات، نتيجة لضغف تيار الهجرة إلى الخليج، وتفاقم المديونية المصرية للخارج، التى أدت إلى ضغط الإنفاق الحكومى واتباع سياسة انكماشية طوال التسعينيات، بل اقترن هذا بتيار معاكس للهجرة بعد الهجوم العراقى على الكويت، مما أدى إلى عودة أعداد كبيرة من المصريين من العراق ودول الخليج، تباطأ أيضا معدل نمو الناتج القومى فى مصر منذ ذلك الوقت، ولم يعد حتى الآن إلى المستوى الذى وصل إليه فى السبعينيات، عندما تدفقت الإيرادات من المهاجرين ومن قناة السويس والمعونات الخارجية، ألا يمكن أن يكون لهذا التباطؤ فى النمو وفى معدل الحراك الاجتماعي، بعد فترة من الحراك الاجتماعى السريع والنمو السريع فى الدخل، أثر على نفسية شريحة واسعة من المصريين، تعلقت آمالهم وآمال آبائهم بالتحسن فى أحوالهم المعيشية ثم خابت هذه الآمال أو بدت أصعب منالا بكثير؟ لقد اقترن هذا الشعور بالإحباط، باشتداد حمى الاستهلاك لدى الشرائح المحظوظة من المصريين، وزيادة النشاط الدعائى الذى يغرى الناس بمزيد من الاستهلاك ويتأثر به المحظوظون وغير المحظوظين، مع اشتداد ظاهرة المجتمع الاستهلاكي، واقترن هذا كله بما طرأ من ضعف على المشروع السياسى فى مصر، وتدهور مكانة مصر السياسية فى العالم العربى وفى العالم ككل، مما يغرى بمزيد من الانصراف عن الاهتمام بالسياسة، والانصراف عن التفكير فى شئون الوطن الى الاستغراق فى الشئون الخاصة بكل فرد، وميل المرء إلى التركيز على مشروعه الخاص لنفسه وأسرته، ولو أدى هذا إلى الخروج على القانون أو قبول القيام بأعمال غير وطنية وغير أخلاقية، ألا يمكن أن يكون لكل هذا أثر مهم فى إضعاف الشعور بالولاء للوطن، فى الوقت الذى كانت تكثر فيه أيضا المدارس والجامعات الأجنبية،
هل كان انتشار الهجرة إلى أوروبا، فى العشرين سنة الأخيرة، ولو كان ذلك بعبور البحار فى قوارب مهددة بالغرق، تعبيرا آخر عن ظاهرة أعم، هى ضعف الولاء للوطن؟ وهل يا ترى تعكس بعض صور المناقشات التى تدور الآن فى مجلس الشعب، جانبا من جوانب هذا التطور الخطير فى الحياة الاجتماعية فى مصر؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة