طبعاً لا أحد يستطيع الادعاء بامتلاكه ما يكفي من المعلومات، بشأن ما يجري في العالم من أحداث
بين علو وانخفاض أصوات دعاة التقسيم والمناهضين له في المنطقة العربية، منذ «الخضة الكبرى» التي تعرضت لها مطلع عام 2011، بمسمى الربيع العربي، وأصحاب المشروع ما انفكوا يغزلون خيوطه، وينسجون أقمشته على المقاسات التي يجري الاتفاق عليها، في الغرف المغلقة. آخر مرة ارتفع فيها هذا الصوت كانت على لسان مسؤول أمريكي كبير، هو جون برينان، رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، حين أجاب عن سؤال وجه إليه الجمعة 29 يوليو/تموز 2016، في منتدى أسبين (ولاية كولورادو) السنوي، بالقول «لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سوريا موحدة مرة أخرى»، وذلك في تصريح أمريكي رسمي نادر وصريح بوجود نية أمريكية مبيتة لتقسيم سوريا. وكانت قوى كردية قد طرحت فكرة «الدولة الفيدرالية» التي بموجبها تُقسَّم سوريا إلى ثلاثة أقاليم: كردي في الشمال، وأوسط تحت سيطرة النظام، بقيادة الطائفة العلوية، وجنوبي تحت سيطرة المعارضة السنية.
وقد لاقت هذه الفكرة، التي شجعها الأمريكيون، قبولاً لدى روسيا عبّر عنه وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وأوضحه تصريح سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، ظهر الاثنين 29 فبراير/شباط 2016، وقال فيه بالحرف «نأمل أن يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية».
طبعاً لا أحد يستطيع الادعاء بامتلاكه ما يكفي من المعلومات، بشأن ما يجري في العالم من أحداث، تبدو ظواهرها، أن لا رابط بينها، تمكنه من الزعم بما ستؤول إليه أمور الاحتراب المادي والسياسي والدبلوماسي، خصوصاً ما يدور خلف الكواليس، والذي يشكل نحو 90% من «مستمسكات» الأحكام المقارِبة للحقيقة، حول مآلات هذا الاحتراب وفواصله الزمنية.
ومع ذلك يمكن الاستدلال بجملة من الوقائع المتدافعة دفعاً ذاتياً من قبل «كبار اللاعبين» الدوليين الذين يديرون في اللحظة التاريخية الراهنة توجيه دفة الصراع الذي اختاروا بمكر ودهاء نوعية وقوده، وصنّعوه بمواصفات مطابقة ل«متطلبات سوق مستهلكيه» في بلاد العرب، والبناء عليها للتقرير، زعماً بأن هؤلاء منهمكون في عمل دؤوب يرمي إلى إعادة رسم خرائط عدد من بلدان المنطقة العربية، قوامه (العمل) تقسيم ما كان قسَّمه البريطاني، مارك سايكس، والفرنسي جورج بيكو، بموجب ما سمي باتفاق سايكس- بيكو لعام 1916، لبلدان الهلال الخصيب العربية.
فاشتغال الأمريكيين على الظفر بمدينة منبج بالتعاون مع أكراد سوريا، والإعلان صراحةً أن هدفهم القادم مدينة الرقة، من دون إغفال هدف التشطير الكامن في التكوينات الماكرة للقوى السياسية التي تنتظم جبهة العمل العسكرية الأمريكية، بعد أن تكفلت روسيا بمعاونة الجيش النظامي السوري بطرد «داعش» من مدينة تدمر والعمل معاً لإعادة السيطرة على اللاذقية وأريافها، والتنافس الشرس مع جبهة الأمريكيين، للظفر بمدينة دير الزور في الشرق السوري، ومدينة القنيطرة في الجنوب الغربي، ومدينة حلب في الشمال.
الأمريكيون يريدون إنشاء قاعدة عسكرية لهم في سوريا للتعويض عن احتمال فقدان امتياز استخدام قاعدة إنجرليك الجوية التركية بحرية مطلقة في ضوء الانعطافات الحادة التي تشهدها اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية، واحتمالات انعكاسها على علاقاتها مع حلفائها الشرق أوسطيين التقليديين، خصوصاً بعد أن عززت روسيا تواجدها العسكري على الأراضي السورية.
فلا غرو، أن تحاول واشنطن وحليفاتها الأوروبيات إزاحة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من المشهد التركي، بعد تكرار إزعاجاته في ملف اللاجئين، ومشاغباته للمخطط الأمريكي المتفاهَم عليه مع الروس، لإنشاء كيان كردي مستقل، فيدرالي، في شمال سوريا، ضمن مخطط التقسيم الفيدرالي، المنتوي إنهاء مرحلته الأولى، قبل انتهاء ولاية الرئيس أوباما، على أن تستكمل خليفته المرشحة هيلاري كلينتون، مرحلته الثانية والنهائية.
صحيح أن التدخل التركي في شمال سوريا، قد خلط أوراق اللاعبين الكبيرين موسكو وواشنطن، لكنهما تملكان على الأرض من الأوراق، ما يمكنهما من إعادة الإمساك بخيوط اللعبة.
بهذا المعنى، تكون سوريا، بعد السودان والعراق، وفي الطريق إليهم ليبيا واليمن، مقسمة برسم الأمر الواقع. ولم يتبقَّ سوى إضفاء الصفة القانونية على هذا التقسيم الجاري العمل به، يومياً، على قدم وساق لترسيخ قواعده على الأرض، لإخراجه بالصورة والمذاق، المستساغين للأسرة الدولية وممثلياتها المؤسسية التي ستكلف لاحقاً بمهمة إضفاء المشروعية، وإن كانت منقوصة، على نقاط الفصل، أو العزل إن شئتم، التشطيري الجديد قيد التنفيذ.
* نقلاً عن جريدة الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة