كان العالم الفرنسي كلود ليفي يأخذ على الغرب كونه ضيّع فرصته الوجودية والتاريخية حين رفض تلك اليد التي مدّها اليه الشرق
كان عالم الإناسة الفرنسي الكبير كلود ليفي - ستروس ولا سيما في كتبه الأخيرة مثل «حكاية اللنكس» و»الخزّافة الغيورة» يأخذ على الغرب كونه ضيّع فرصته الوجودية والتاريخية حين رفض تلك اليد التي مدّها اليه الشرق من ناحية والبلاد «المكتشفة» من قبله من ناحية أخرى.
وكان يمثّل على ذلك بكريستوف كولومبوس الذي ما إن وصل الى سواحل العالم الجديد ورأى السكان الأصليين يمدون أيديهم مرحبين به، حتى أعمل فيهم ذبحاً وتقتيلاً مضيّعاً تلك الفرصة الحضارية التي كان من شأنها أن تغني الغرب نفسه! وفي العام 1964 في تقديم الشاعر البلجيكي/الفرنسي هنري ميشو لكتاب رحلات شهير له كان أصدره في العام 1933 بعنوان «بربري في آسيا» كتب ميشو أن أكثر ما يحزنه ويدفعه الى القنوط، بعد ثلاثة عقود من وضعه ذلك الكتاب، هو ما شاهده حين عاد لزيارة تلك البلدان التي كتب عنها ذلك النص الجميل: فالحال أنه إذ كان يعتقد - ويأمل - في المرة الأولى بأن الغرب إذ يصل بحضارته وتقنيته الى تلك البلدان وعلى رأسها الصين والهند وإندونيسيا واليابان في تلك المراحل المبكرة من القرن العشرين، سيتعلم من تلك الحضارات الآسيوية الشرقية ما ينقصه ليراكم خبرات ومعارف وأخلاقيات وحساسيات تنهض به من كبوته التي كانت معتملة ودفعت يومها مفكرين من طيبة شبنغلر الى الكتابة عن «انحطاط الغرب».
بيد ان الذي حصل، والذي رصده ميشو، في الشرق بعدما زاره بعد كل تلك السنوات التي خيّل إليه فيها أن التلاقح قد تم بحيث يأخذ كل طرف من الآخر أفضل ما عنده، فوجيء بأن ما حدث كان عكس ذلك تماماً: أعطى الغرب للشرق أسوأ ما عنده ما جعل الشرق يفقد بالتدريج كل تلك القيم وضروب الجمال والنقاء التي كان شاعرنا قد رصدها وسجلها بكل حماسة قبل كل تلك السنين، وهي حماسة كانت تتجلى منذ عنوان الكتاب الذي يعتبر فيه ميشو، وهو الغربي الأوروبي، أنه مجرد بربري يتجول في بلاد حضارية ويتعلم.
> والحقيقة أن كتاب «بربري في آسيا» هو واحد من تلك النصوص العديدة التي كان ميشو ينشرها بين الحين والآخر ولا سيما في مستهل عهده بالكتابة أيام قاده ترحاله وأزماته الروحية و»قلقه الوجودي الأوروبي» الى محاولة أن يرى بأم العين، ما الذي يجري هناك في «الأماكن الأخرى» - وكان هذا كذلك عنوان كتاب رحلات آخر له على أية حال-. أما بالنسبة الى «بربري في آسيا» فإنه يروي فيه وقائع رحلته الآسيوية التي قام بها بين الصين واليابان والهند وإندونيسيا وغيرها في العام 1931.
وبالطبع يصف ميشو في الكتاب مشاهداته ولا سيما منها الثقافية والحضارية تبعاً لإيقاع بادي السخرية والمرح ولا سيما حين يقارن بين ما يشاهده هنا وما يعيشه الناس في بلاده، متسائلاً في كل لحظة وحين عما يمكن لأبناء جلدته الغربيين «أن يتعلموه من الاحتكاك بتلك الشعوب الحكيمة الرائعة».
> ولكن إذا كانت السطور السابقة قد قدّمت هنري ميشو في شكل يوحي أنه كان من كبار الكتاب/الرحالة في القرن العشرين، فإن الاستنتاج ليس دقيقاً، بل إن «الرحالة» ميشو يبدو اليوم منسياً لحساب ميشو الآخر، الشاعر والرسام.
فالحال أن ميشو يمكن العثور عليه في كتب الفن الحديث رساماً تجريدياً مرموقاً، وهو في الكتب التي تؤرخ للحركة الشعرية الفرنسية، شاعراً من كبار شعراء هذه اللغة، بل ثمة من يغالي فيقول انه كان واحداً من آخر وأكبر شعراء القرن العشرين، لكن هذا امر ليس ثابتاً في شكل كلي. المهم أننا من اي ناحية نظرنا الى الفرنسي/البلجيكي هنري ميشو، سنجده ابناً من ابناء هذا الزمن وحداثة هذا الزمن، فهو سواء كان ذلك في رسومه، ام في اشعاره ونصوصه النثرية، كان يعتبر نفسه متمثلاً لتجربة الفن، في بعده الميتافيزيقي، كنقيض للأشياء المادية، بمعنى انه نظر الى الفن كبعد سامٍ من ابعاد التجربة الإنسانية، ووسيلة لتقريب الروح من مغناءاتها العليا، أما رحلاته فهي أغنت فنه ولا سيما من خلال تأثره، مثلاً، بالحروفية الصينية كما أسلفنا.
> بالنسبة الى ميشو كان البحث عن تلك الوسيلة للسمو بالروح، وسيلة بالتالي للرد على الشرط الإنساني الذي كان يراه مظلماً، وسط معمعة حياة كان ينظر اليها على انها عبور في الوجود غير مجد.
ومن هنا اعتبر واحداً من شعراء اليأس المرموقين. وكيف لا يكون شاعر يأس شخص ولد في نامور البلجيكية في الأخير من القرن الفائت، وخبر كل مأساة الإنسان الأوروبي من تكالب الحروب والصراعات، الى هجوم العصر المادي، الى الخواء الروحي الذي راح الغرب يبشر به. والحال ان ما زاد في طين هنري ميشو بلّة ترحاله بين آسيا وأميركا اللاتينية في مستهل شبابه، حين قادته حياته المضطربة لكي يعمل بحاراً.
هناك في تلك البلدان والمناطق «البكر» كما كان يسميها، اكتشف ميشو صعوبة شرطه كإنسان اوروبي وبدأ، اذ ادرك ان بإمكانه ان يعبر عن ذلك شعراً ورسماً، بدأ يكتب ويرسم، وبخاصة حين تتيح له فترات عمله ان يقيم في باريس لبعض الوقت.
وذات مرة قرر ان يقيم في باريس لفترة من الزمن طويلة (طالت بعد اكثر مما كان يتوقع) فعمل في التدريس ثم التحق بالشاعر، المشهور في حينها، جول سوبرفياي، فعمل سكرتيراً له، وكان ذلك في نفس الوقت الذي راح يكتب فيه، وينشر، اولى قصائده، وقد لفت الأنظار حين نشر مجموعته الأولى.
«من كانت يا ترى؟» في 1927. ولكنه ما ان قدم نفسه لباريس كشاعر ونال شهرة على هذا الأساس، حتى بدأ يقدم نفسه لها كرسام، وأقام في 1937 معرضه الأول. غير ان شهرته الحقيقية برزت حين كتب عنه اندريه جيد، وكان من غلاة المعجبين به، دراسة مستفيضة جعلت له مكانة في الحياة الثقافية الفرنسية.
> اعتباراً من 1941 الذي كتب فيه جيد دراسته عن ميشو، وحتى العام 1984، عام وفاته، آلى ميشو على نفسه ان يجعل نشاطه مقتصراً على الشعر والرسم.
وهما امتزجا لديه انطلاقاً من رغبته، كما قال، في ان يطل على العالم من «نافذتين مختلفتين» بخاصة أن هذين الفنين معاً، «ينتميان الى النسغ نفسه، وينطلقان معاً من رفض كل ضرب من ضروب المحاكاة، ومن نفس المشروع الساعي الى اعطاء شكل لما لا شكل له».
> ومن هنا نظر النقاد والأدباء الى هنري ميشو نظرتهم الى الفنان في خالص نقائه الفني وانصرافه الى ابداعه من دون النظر الى اية اعتبارات اخرى. وفي هذا المجال أصبح ميشو أسطورة في الحياة الثقافية الفرنسية.
وهو تابع مسيرته الشعرية كما في مجال الرسم «مقارعاً خواء الحياة الحقيقية بلجوئه الى ثراء الخيال» وهو لئن انتمى، بعض الشيء الى السورياليين، فإن ما في صوره السوريالية، سواء كانت شعرية ام تصويرية، من تناقض خدمه للتعبير الدائم عن عبثية الوجود... ولكن بالمعنى الساخر للكلمة.
وعلى هذا الأساس، على رغم أن هنري ميشو وجاك بريفير كانا صديقين ومتزامنين تقريباً، فإن النقاد غالباً ما وضعوا احدهما في تناقض مع الآخر، من ناحية المضمون الشعري على الأقل، اما من ناحية الشكل فلقد قرّب بينهما فيه التجاء ميشو الى الشعر الحر المرسل ونزعته الدائمة الى التخلص من القافية، وحتى من الموسيقى الداخلية للشعر.
> وتكشف هذا، بالطبع، اشعار هنري ميشو، التي جمعها هو نفسه بدءاً من أواسط الأربعينات وحتى نهاية الستينات في ثلاث مجموعات حملت العناوين التالية «حيّز الداخل»، «هنالك» و»الحياة في الثنايا».
ولكن تكشف عنه كذلك لوحاته العديدة ذات الخطوط التي غالباً ما هيمنت عليها البساطة، وأحادية اللون، واحياناً التشبه بالرسم الصيني، لكنها نزعت في نهاية الأمر، كما شعر ميشو نفسه، الى الكشف عن ان بالبساطة، وسمو الروح الغنية، يمكن مجابهة تعقيدات الحياة، وبأن بعض الحبر الصيني المخطوط على الورق يمكنه ان يخلق شخصيات صغيرة تبدو للناظر اليها وكأنها تقف في منتصف الطريق بين شكل الإنسان وشكل جذوره... وهي «كائنات» كان هنري ميشو ينظر اليها على اعتبارها «ابجدية للظلمات» خُطّت على فراغ الورق.
*نقلا عن جريدة "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة