حين يشاهد البعض متحسرا صورا للأسر المصرية فى الستينيات على الشواطئ وفى الجامعات يبدو له كما لو كنا جميعا آنذاك هكذا.
كنت أظن أن مسئولية ما نشهده من مظاهر تشدد دينى تقع على عاتق الدعاة ولكنى حين راجعت نفسى تبين لى أنه ليس صحيحا أن الداعية المتطرف يمكن أن يوجد جمهورا متطرفا، بل الأقرب للحقيقة أنه يخاطب جماهير جاهزة للتطرف متعطشة لغطاء دينى يرفع عن كاهلها التحرج من تطرفها.
حين يشاهد البعض متحسرا صورا للأسر المصرية فى الستينيات على الشواطئ وفى الجامعات يبدو له كما لو كنا جميعا آنذاك هكذا.
إن جميع تلك الصور حقيقية بالفعل؛ ولكنها لا تعكس كل الحقيقة، فثمة من غابوا عامدين أو تم تغييبهم قصدا عن تلك الصور.
إنهم أبناء التيار المصرى المحافظ بصرف النظر عن تواضع حجمهم النسبى آنذاك. لم تعرف المجتمعات البشرية فى تاريخها جماعة تخلو من تيار محافظ؛ ونقصد بالتيار المحافظ فى هذا السياق فريقا من أبناء الجماعة يرون الأقدم أفضل من الأحدث، ويتخوفون من مخاطر الاختلاط مع المختلف نوعا أو عقيدة؛ وينشئون أبناءهم وبناتهم على الحذر من غواية الاختلاط بالآخر المختلف، ويفضلون تعليم أبنائهم فى مدارس لا تعرف الاختلاط بين الذكور والإناث؛ وحبذا لو كانت مدارس إسلامية تتيح تعليما لا يعرضهم لمخاطر التعرف والاحتكاك بالمختلفين عنهم عقائديا. كان لذلك التيار المحافظ المصرى مؤسساته القائمة بالفعل خارج المظلة الأزهرية منذ أعوام طوال لعل أهمها: «الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية» التى أسسها الشيخ محمود خطاب السبكى عام 1912، و«جمعية أنصار السنة المحمدية» التى أسسها الشيخ محمد حامد الفقى عام 1926، و جماعة «الإخوان المسلمون» التى أسسها الأستاذ حسن البنا عام 1928.
لم يكن متاحا لتلك للأسر المصرية المحافظة إمكانية أن يستكمل أبناؤها وبناتها تعليمهم الجامعى فى مأمن من مخاطر وغواية الاختلاط، إلى أن صدر القانون رقم 103 لسنة 1961 وتحول النظام التعليمى الأزهرى إلى النظم التعليمية الحديثة، وضم إلى كلياته التقليدية كليات للطب وطب الأسنان والصيدلة والعلوم والتربية والهندسة، والإدارة والمعاملات، واللغات والترجمة ، كما تم إنشاء ما يعرف بالتعليم الأزهرى قبل الجامعى أو «المعاهد الأزهرية» التى عرفها ذلك القانون بأنها المؤسسات التعليمية التابعة للأزهر والتى تقوم مقام المدارس بأنواعها فى التعليم العام؛ وبذلك أصبح متاحا لأبناء التيار المحافظ وللمرة الأولى فى تاريخ مصر أن يجدوا لأبنائهم وبناتهم مسارا تعليميا مستقلا لا يعرف الاختلاط من الحضانة إلى الحصول على أعلى الدرجات العلمية المتخصصة؛ وفضلا عن ذلك المسار التعليمى الآمن المستقل؛ فقد تم إنشاء إذاعة القرآن الكريم عام 1964؛ ليتاح لأبناء التيار المحافظ النأى بأسماعهم عما يلوثها من موسيقى وأغان وغيرها.
ولم نلبث أن واجهنا كارثة يونيو 1967، واندفعنا نلتمس تفسيرا لما حدث؛ وكان طبيعيا أن يكون بين التفسيرات الرائجة إرجاع الهزيمة إلى ابتعادنا عن الدين الصحيح وأن حربنا لم تكن خالصة فى سبيل الله.
وتمضى سنوات لننتصر فى حرب أكتوبر 1973 وتروج تفسيرات عديدة للانتصار منها أنه تأكيد لعودتنا للطريق القويم؛ و أصبحنا نكاد ننفرد بإطلاق تاريخين على واقعة انتصارنا العسكري، فهو «انتصار أكتوبر» وهو فى ذات الوقت «انتصار العاشر من رمضان».
وارتفعت أسعار النفط بعد الانتصار وبدأت دول الخليج أنشطة مكثفة للبناء والتعمير فى جميع نواحى الحياة، واتجه ملايين المصريين من جميع الشرائح إلى بلدان الخليج بحثا عن الرزق؛ وتأثر الكثير منهم بطبيعة الحياة هناك حيث يمتزج الرخاء والأمن. ويعود هؤلاء ومعهم ذخيرة من المال والفكر السلفى ليجدوا مناخا مؤسسيا مهيئا لتمسكهم بفكرهم الجديد وممارسته سلوكيا بل والدعوة إليه، وإقامة مؤسساتهم التعليمية والتجارية والطبية والإعلامية الخاصة.
ومن ثم لم يقتصر ذلك المناخ المؤسسى الذى يكفل نشاطا جماعيا منظما على استمرار تلك المؤسسات التعليمية والإعلامية الأزهرية التى استحدثت فى مطلع الستينيات، بل أقيمت فى موازاتها تلك المؤسسات الجديدة فضلا عن انتعاش المؤسسات المحافظة القديمة التى كانت قائمة بالفعل قبل الستينيات.
أصبح لدينا إذن مجموعة من المؤسسات الأزهرية؛ إلى جانب مجموعة موازية من المؤسسات الإسلامية الخاصة إذا ما صح التعبير؛ وتختلف المجموعتان اختلافات أساسية من حيث التمويل وكذلك من حيث التوجهات الفكرية.
مؤسسات الأزهر تعتمد فى تمويلها بشكل أساسى على الأوقاف الإسلامية التى أنيط الإشراف عليها إلى وزارة الأوقاف الحكومية؛ فى حين تعتمد بقية المؤسسات على اشتراكات وتبرعات أنصارها فضلا عن معونات تتلقاها من دول الخليج خلاصة القول إن توهج التيار الإسلامى المحافظ فى مصر لا يمكن إرجاعه إلى عامل وحيد، بل تضافرت لتوهجه عدة عوامل لعل أهمها: إقامة أبنية مؤسسية تعليمية وإعلامية قبيل وقوع كارثة هزيمة 67 تقنن ممارسة السلوك المحافظ، إلى جانب ما تلى حرب أكتوبر 73 من توفير مصادر تمويل خليجية.
*نقلا عن جريدة "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة