في مقال الأمس تناولت موضوعا شائكًا تصدر مقالًا هامًا للمسئول الأمريكي السابق جون بولتون في صحيفة نيويورك تايمز دعا فيه لإنشاء دولة سنية
في مقال الأمس تناولت موضوعًا شائكاً تصدر مقالًا هامًا للمسئول الأمريكي السابق جون بولتون في صحيفة نيويورك تايمز دعا فيه لإنشاء دولة سنية في شمال شرق سوريا وشمال غرب العراق، وهي المنطقة التي تسيطر عليها داعش حاليًا، واليوم أريد أن أتناول بعض المبررات المطروحة بالتحليل لنقف عند ما يمكن أن تمثله من فوائد أو مخاطر، بصورة تعتمد علي الحسابات السياسية والاستراتيجية، بصرف النظر عن صدورها عن شخصيات عرفت بتطرف مواقفها في قضايا المنطقة مثل بولتون ومجموعة المحافظين الجدد (وهي مواقف لا تتفق بالضرورة مع مواقف إدارة أوباما)، ولكن أهميتها تنبع مما يبدو تأييدا لها، ولو على استحياء في المنطقة.
أول هذه المبررات أن السنة في تلك المناطق لن يتصدوا لداعش إلا إذا ضمنوا عدم العودة لسلطة الحكم الشيعية في بغداد، كما هو الحال في منطقة العشائر السنية في العراق، ولحكم بشار الأسد العلوي في سوريا.
وهو تقييم يستند لبعض الحقائق المرتبطة بالسياسات الخاطئة لبغداد ودمشق علي مدي الأعوام الماضية، ففي العراق قامت حكومة المالكي بتهميش السنة، ولم تتمكن حكومة العبادي من تغيير هذا الواقع بشكل حقيقي. أما سوريا فجرت فيها دماء غزيرة لنحو ربع مليون شخص أغلبهم بسلاح جيش النظام السوري، بما ساعد ـ مع عوامل أخري ـ علي تكريس التناحر الطائفي في الدولتين. إذن هذا واقع لا يمكن تجاهله، لكن السؤال الهام: ألا يمكن ضمان الوصول إلي صيغة تضمن تحجيم سيطرة الحكومتين (القادمتين) في دمشق وبغداد علي تلك المناطق السنية دون تقسيم الدولتين طبقًا لهذا المخطط؟ التجربة السابقة تقول بأن العشائر العراقية انتفضت ضد منظمة "القاعدة في العراق" بقيادة أبو مصعب الزرقاوي وتمكنت من دحرها، دون أن تشترط انفصالها عن الحكم في بغداد كما يفترض بولتون الآن، صحيح أن أوضاعًا تغيرت علي الأرض، وساهمت سياسات بغداد في تكريس هذا المفهوم لدي نسبة كبيرة من السنة في العراق، لكن هل يعني ذلك أنهم يريدون الانفصال، أم تسوية مشاكلهم وإعطاءهم حصة أكبر في حكم البلاد؟ أعتقد أننا لا ينبغي أن نحكم في ذلك نيابة عنهم، الأمر نفسه ينطبق علي سنّة سوريا الذين يريدون بالتأكيد التخلص من بشار والسيطرة العلوية علي مقدرات البلاد، ولكن هل هذا يعني رغبتهم في تقسيم بلادهم؟ صحيح أن الواقع الآن يشير انهيار الدولتين وانقسامهما بشكل فعلي، إلا أن رؤية المستقبل في المنطقة لا ينبغي أن تكون أسيرة الأزمة الراهنة.
وربما يكون في عملية التقسيم إغراء لبعض دول المنطقة التي طالما توجست مما تسميه "الهلال الشيعي" الذي يمتد من إيران للعراق فسوريا ولبنان، بما يعني هيمنة أكبر لإيران بما تمثله من تهديد لبعض دول المنطقة وللمنظومة الإقليمية السائدة، وهو تخوف مشروع، في هذا الإطار فإن تلك الدولة "السنية" المفترضة يمكن أن تمثل انقطاعًا جغرافيًّا وسياسيًّا لتواصل ذلك الهلال علي الأرض، لكن مرة أخري: هل إقامة هذه الدولة هي الحل الأفضل لمواجهة ذلك التهديد؟
هنا يجب أن نقف عند بعض الأمور:
أولًا: إن الجانب الجغرافي ـ رغم أهميته ـ ليس العنصر الوحيد لوقف هذا التمدد الإيراني، فبقايا الدول القائمة ـ وهم في هذه الحالة الدولة الشيعية جنوب العراق، والدولة العلوية علي الساحل السوري ستكون أكثر تبعية للسلطات الإيرانية، وستعتمد عليها بشكل كامل في مواجهة ما تراه من تهديد وحصار "سني"، وستكون وصفة للمزيد من الصراعات الطائفية الدامية بين الطرفين، فالدولة الجديدة ستحمل ميراثًا ثقيلًا من الثأر والدماء سيدمر علاقتها مع الدول المحيطة، وهنا يأتي تصور آخر بديل: ألا يمكن أن يكون العراق في ظل حكومة متوازنة طائفيًّا، تضمن دورًا حقيقيًّا للأقلية السنية، ضمانة أكبر لاستمرار العراق ضمنة منظومة الأمن العربي، وحاجزًا أكبر ضد أي رغبة للتمدد الإيراني؟
ثانيًا: حدود هذه الدولة لن يكون من السهل تخطيطها للتشابك القائم عرقيًّا ومذهبيًّا، وللصراع علي مصادر الدخل خاصة آبار البترول في سوريا والعراق، وهو صراع لا يمكن حسمه في جلسة صلح، بل قد يستمر معنا لعقود قادمة.
ثالثًا: الأكراد حققوا بالفعل استقلالًا شبه كامل عن الدولة العراقية في بغداد، وهم في طريقهم لذلك في سوريا؛ لأنهم القوة الوحيدة المنظمة علي الأرض التي تواجه داعش ضمن التحالف الأمريكي، لكن حدود تلك الدولة الكردية الجديدة لا يمكن الاتفاق عليها بسهولة أيضًا، والصراع علي كركوك مثلا وما فيها من نفط سيكون بؤرة اشتعال دائم، كما أن تركيا -عضو حلف الأطلسي- ومعها إيران ستريان في هذه الدولة تهديدًا كبيرًا لهما لوجود أقلية كردية فيهما، وما التردد التركي الذي رأيناه خلال الفترة الماضية في محاربة داعش إلا تعبيرًا عن أولويات أنقرة التي تركز في الأساس علي منع السيطرة الكردية علي حدودها مع سوريا، حتي لو أدي ذلك إلي استمرار الثغرات في تلك الحدود بما يساعد داعش، جون بولتون يقول، إن الدولة السنية المطلوبة ستكون ضمانة لاستقرار الحدود الجنوبية لتركيا، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، الخريطة تقول ذلك، وصراع تركيا في الأساس مع الأكراد وهم فصيل سني.
خامسًا: هذه النقطة تحديدًا يمكن أن تثير حساسيات شديدة لدي دول الإقليم، وهي وجود أقليات شيعية فيها، ولاشك أن تسوية الصراعات في سوريا والعراق علي أساس طائفي بإقامة دولة سنية بين الدولتين لن يمر بشكل عابر علي تلك الأقليات، بما قد يهدد استقرار تلك الدول علي المدي المتوسط والبعيد.
بقي البعد الدولي في ظل التحالفات القائمة أو التي تتشكل بقيادة كل من روسيا والولايات المتحدة، وما يعنيه ذلك لمستقبل المنطقة، -وهو موضوع مقال الغد-.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة