يأتى اتفاق الصخيرات, والمقرر توقيعه اليوم فى المغرب بين الفرقاء الليبيين, تتويجا لمفاوضات شاقة رعتها الأمم المتحدة لأكثر من عام
يأتى اتفاق الصخيرات, والمقرر توقيعه اليوم فى المغرب بين الفرقاء الليبيين, تتويجا لمفاوضات شاقة رعتها الأمم المتحدة لأكثر من عام امتدت من غدامس
إلى جنيف ومروا بالجزائر وانتهاء بالمغرب وشهدت شدا وجذبا بين أطرافها, وطرحت أربع مسودات لتنتهى بالصيغة الحالية والتى تتضمن حكومة وحدة وطنية توافقية تمثل خطوة مهمة فى اتجاه الخروج من النفق المظلم الليبى.
وتنبع أهمية هذا الاتفاق من عدة أمور أولا كونه يكرس غلبة الحل السياسى على الحل العسكرى للأزمة الليبية التى امتدت اكثر من خمس سنوات عاشت فيها ليبيا حالة اللادولة مع وجود حكومتين وبرلمانيين ولكل منهما مليشياته وتحالفاته الداخلية والخارجية وأسفرت عن حالة فراغ كبيرة وظفتها التنظيمات الإرهابية مثل داعش التى سيطرت على مدينة سرت ودرنة وتسعى لبسط نفوذها وسيطرتها على المدن الليبية المهمة والغنية بالنفط والتى تشمل أجدابيا وبن جواد ورأس لانوف, وتحتوى على معظم حقول النفط الليبى وهو ما يشكل خطورة كبيرة على مستقبل ليبيا وعلى دول الجوار, وثانيا أنه يحظى بدعم قطاع عريض من الشعب الليبى والفصائل الكبرى, كما أنه يأتى تحت مظلة الأمم المتحدة ويحظى بدعم دولى وإقليمى كبير مما يشكل أحد ضمانات تنفيذه وصموده أمام التحديات العديدة التى قد تواجهه, وثالثا كونه يمثل الحد الأدنى للتوافق بين المواقف المتعارضة والتناقضات الكبيرة لطرفى الأزمة وتقاسم السلطة بينهما, وهو ما بدى من بنود الاتفاق خاصة تشكيل حكومة الوفاق والتى ترتكز على عناصر تكنوقراط محايدة لا تنتمى لطرفى الصراع باستثناء نائبى رئيس الوزراء حيث يرشح كل منهما نائبا, وتم الاحتفاظ ببرلمان طبرق كجهة تشريعية ومرجعية الحكومة والرقابة عليها, مقابل تأسيس المجلس الأعلى للدولة وهو أعلى جهاز استشارى, يقوم بعمله باستقلالية، ويتكون من 120 عضوا ويضم فى غالبيته أعضاء المؤتمر الوطنى العام فى طرابلس, ويتولى إبداء الرأى الملزم بأغلبية في مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية التى تعتزم الحكومة إحالتها إلى مجلس النواب، ويحظى فى بعض الصلاحيات التى تتعلق بالمناصب السيادية وبسحب الثقة من الحكومة وتعديل الإعلان الدستورى وبعض القضايا الأساسية. ورابعا يعالج الاتفاق إشكالية انتشار الأسلحة وعسكرة الشارع الليبى من خلال النص على نزع أسلحة الميليشيات ودمجها ضمن الجيش الليبى الموحد.
لكن رغم أن الاتفاق يمثل نقلة نوعية فى مسار التفاعلات الليبي وينقلها من حالة الصراع والاقتتال واحتمالات انقسام البلاد ويؤسس لمفهوم الدولة بمعناها الحقيقى من مؤسسات سياسية وإدارية موحدة وجيش موحد يحافظ على أمن البلاد ووحدتها, إلا أن الاتفاق يواجه العديد من التحديات التى تهدد تنفيذه وتتطلب مواجهتها, أولها ضمانات تنفيذ الاتفاق ومدى التزام أطرافه ببنوده بعيدا عن لغة الاستقطاب والصراع على المناصب, ولذلك تبرز أهمية أن يتضمن الاتفاق عقوبات محددة على أية طرف ينتهك تنفيذ الاتفاق, كذلك تحدى مدى التزام الفصائل والأطراف الأخرى, التى لم توقع عليه, به وهو ما يتطلب أيضا وضع آليات لاستيعاب هؤلاء ضمن العملية السياسية واتخاذ موقف صارم ضد من يسعى لعرقلة تنفيذ الاتفاق, وثانيها أن الاتفاق نص على نزع أسلحة الميليشيات ودمجها فى الجيش لكنه لم يضع آليات محددة ووفق جدول زمنى واضح لجمع تلك الأسلحة الموجودة لدى الميليشيات المنتشرة فى جميع المدن الليبية وتشكل تهديدا حقيقيا لسيادة وهيبة الدول, وثالثها مدى المرحلة الانتقالية وحدود خريطة الطريقة التى تضمنها الاتفاق, فهو لم يضع فترة زمنية محددة لانتهاء مدة مجلس النواب, كما لم يضع جدولا زمنيا محددا لكتابة الدستور الدائم وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الجديدة, خاصة أنه إذا استمرت الاستقطابات والصراعات السياسية بين الجبهتين الشرقية والغربية مع وجود المجلس التشريعى ومجلس الدولة وتضارب اختصاصتهما, فإنه قد يهدد بانفجار الاتفاق أو إطالة أمد المرحلة الانتقالية, ورابعها حدود التدخل الخارجى خلال تفاعلات المرحلة الانتقالية, خاصة أن الدور الخارجى لعب دورا سلبيا خلال السنوات السابقة من خلال تكريس حدة التناقض بين الأطراف الليبية عبر الدعم السياسى والعسكرى لهذا الطراف أو ذاك, ولذلك تبرز أهمية وقف كل صور التدخل فى الشئون الليبية وفرض عقوبات دولية على الأطراف والدول التى تعرقل تنفيذ الاتفاق.
غير أن المقوم الحقيقى لنجاح الاتفاق, والذى يمثل التحدى الأكبر, هو سبل تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية بين كل أبناء الشعب الليبى المتصارعين وإعادة اللحمة الوطنية للنسيج المجتمعى بعد الشروخ الكبيرة التى تعرض لها نتيجة لصراعات السنوات السابقة وما خلفته من قتل ودمار, وتهميش كل طرف للآخرين, ولذلك من المهم عقد مؤتمر وطنى للمصالحة الوطنية يشمل كافة أطياف وفصائل الشعب الليبى بمن فيهم أنصار النظام البائد فى الداخل والخارج ممن لم تلوث أيديهم بالدماء والفساد, وأن يشارك الجميع فى العملية السياسية, فى إطار تحقيق العدالة الانتقالية, وأن يكون هناك هدف مشترك للجميع يتمثل فى استكمال تحقيق أهداف ثورة 17 فبراير العظيمة فى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية, وبناء الدولة الليبية الوطنية الحديثة والحفاظ على وحدتها وسيادتها واستقرارها, وتكريس الديمقراطية الحقيقية والتعايش بين الجميع وترسيخ مبدأ المواطنة الذى يساوى بين الجميع فى الحقوق الواجبات ضمن دولة المؤسسات والقانون والتفرغ لإعادة الإعمار والتنمية فى ظل موارد البلاد الهائلة, وأن يستوعب الجميع درس السنوات الخمس الماضية فى أن الكل خاسر من الصراع واستمراره, وأن تكلفة السلام والبناء أقل جدا من تكلفة العنف والدمار والذى أدى لانتشار الإرهاب.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة