صحيح أننا نري أحيانًا في الغرب "ردة" أو صعودًا لليمين المتطرف في بعض الدول، وحتي في كندا
رغم أهمية القرار الأممي الصادر في نيويورك قبل ساعات، والذي أنهكنا اليوم بطوله، ورغم التصريحات المتفائلة التي واكبت صدوره، إلا أن لا أحد بإمكانه أن ينكر ما بين «أجندات» المتفائلين من تباين، كما لا أحد بإمكانه أن ينكر أن «الفشل في إدارة التنوع» هو السبب الحقيقي الكامن وراء ما وصلت إليه سوريا، كما كان السبب فيما وصلت إليه العراق، وأنه للأسف سيظل الشبح الذي يهدد نجاح أي جهد دولي أو إقليمي يحاول الحفاظ على تماسك الدولتين ووحدة أراضيهما.
في المقالات الثلاث السابقة كنّا قد ناقشنا التعقيدات والمخاطر التي تحكم الخيار المطروح بإقامة دولة سنية في المنطقة التي تسيطر عليها داعش حاليًا شمال شرق سوريا وشمال غرب العراق، وهي الدولة التي دعا إليها المسئول الأمريكي السابق جون بولتون، أحد صقور المحافظين الجدد في واشنطن الذي أسهموا في الدفع لغزو العراق عام ٢٠٠٣.
لكن بصرف النظر عن شخص بولتون، فإن هناك واقعًا علي الأرض أسقط الدولتين (سوريا والعراق) من الناحية العملية، وما يتم الآن هو إعادة تشكيل المنطقة ورسم حدودها بعيدًا عما استقرت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الأولي وانهيار الدولة العثمانية، لكن إذا كان العرب وقفوا وقتها متفرجين بينما يتم تحديد مستقبلهم، فهو أمر مفهوم؛ لأنهم كانوا في أغلبهم مناطق مستعمرة من بريطانيا أو فرنسا أو خاضعة للدولة العثمانية المنهارة، لكن لا يوجد الآن ما يبرر موقف المتفرج، ولابد أن يكون هناك دور إيجابي يحافظ علي منظومة الأمن العربي، ولا يعرضها للتفكك أكثر مما هي عليه الآن.
وإذا كان إنشاء دولة سنية أمرًا محفوفًا بالمخاطر كما أوضحنا، فلابد من إيجاد صيغة بديلة، خاصة مع صعوبة ـ إن لم يكن استحالة ـ عودة الأمور إلى ما كانت عليه في الدولتين، فقد انقسم العراق عمليًّا، وانهارت الدولة السورية، فما هو البديل؟
في العالم المثالي كما نتمناه، فإننا يمكن أن نرى ذلك النموذج الكندي الذي شكل حكومة جديدة نصفها من الأقليات، وفيها وزيرة مسلمة شابة من أصل أفغاني، ووزير دفاع من السيخ ولد في الهند، دون أن يشكك أحد في ولائه لكندا، أو خطورة اطلاعه على أسرار الدولة العليا أو يتفزلك أحدهم متسائلًا: ماذا لو وقعت حرب بين كندا والهند من سيؤيد؟ هذا ببساطة هو العالم الجديد لمن يريد أن يعيش فيه وليس على حسابه.
صحيح أننا نرى أحيانًا في الغرب "ردة" أو صعودًا لليمين المتطرف في بعض الدول، وحتي في كندا فإن حكومة ترودو الحالية ليست كحكومة هاربر اليمينية التي سبقته، لكن يبقي النموذح العام الذي يحتفي بـ "التعددية" التي تقبل بالآخر وتعطيه الحقوق المتساوية بصرف النظر عن أي اختلافات دينية أو عرقية أو مذهبية.
لكننا نتعامل هنا مع الواقع العربي وعلينا ألا ندفن رؤوسنا في الرمال، فنحن لا نزال بعيدين عن ذلك النموذج بمسافات، إلا أنه يتعين علينا أن نجعله هدفًا ثابتًا ليس فقط لحل مشاكلنا السياسية، ولكن لفهم أن هذا التنوع يمثل ثراء لمجتمعاتنا ويعطيها "الموزايك" الذي يميزها ويجعل لها خصوصية، يجب أن يظل هدفنا أن نري مجتمعًا يصوت فيه ناخب شيعي لمرشح سني أو مسيحي أو العكس دون أن يقف عند دينه أو مذهبه.
إلا أن هذا يحتاج سنوات طويلة من العمل علي كل المستويات التعليمية والثقافية والاجتماعية، بينما نحن نواجه الآن مشكلة أمنية وسياسية ملحة لإنهاء الصراعات المحتدمة في سوريا والعراق وغيرها من دول المنطقة التي تحوم حول الحمي أو توشك أن تواقعه، ومهمة الدبلوماسيين الذين يتباحثون في الأزمة، ليست في إقناع العناصر المتطرفة بقبول "الآخر" ، ولكن في فض الاشتباك القائم والسعي لوقف إطلاق النار تمهيدًا لفترة انتقالية في سوريا، كما ذكر القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي، على أمل التوصل لصيغة جديدة لا أحد يعرف تحديدًا ما ستكون عليه، وكيف ستؤثر علي الشكل النهائي للدولة السورية أو العراقية؟
واعتقادي أن "الدولة" في مناطق كثيرة من العالم العربي كانت منذ البداية تعاني من تعارض "شكلها" السياسي، مع واقعها الديموغرافي، فلم يكن هناك اعتراف بالتعددية العرقية والدينية والمذهبية، وبالتالي لم يتم استيعاب هذه التعددية والأقليات الموجودة في النظم السياسية التي تشكلت في أعقاب انهيار الدولة العثمانية، ورغم الانتقادات الكثيرة التي تم توجيهها لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولي، إلا أنها يذكر لها أنها حافظت على ذلك " الموزايك" الموروث عن العهد العثماني للتركيبة السكانية القائمة، وقد كان مفهوم "القومية" العربية كافيا لفترة لإخافة أي نزعات فئوية أو طائفية تسمح بإبراز التوترات بين هذه الجماعات المتباينة، لكن مع تراجع المفهوم القومي كان لابد من بدائل تسمح بهذا الاستيعاب حتي لا يكون بروزها علي حساب الكيانات السياسية القائمة، وهو ما لم يحدث، وتم الاعتماد الكامل علي قدرة كل دولة علي فرض سيطرتها بنفس الوسائل القديمة التي تركن في الأغلب إلى العنف والقهر وهي أدوات لم تعد كافية في القرن الحادي والعشرين، فسقط نظام الدولة في بعض الحالات، وربما يستمر مسلسل الانهيار في حالات أخري بما يمثل تهديدًا لاستقرار المنطقة ومستقبلها كله، وما نراه في كل من سوريا والعراق ما هو إلا أحد أعراض تلك المشكلة.
إننا كثيرًا ما نتحدث في العالم العربي عن نقص الديمقراطية، لكن الأهم ـ من وجهة نظري ـ هو تجاهل التعددية pluralism ، هذا التجاهل ليس فقط من الناحية السياسية، ولكن أيضًا في احترام التميز الثقافي والحضاري لكل طائفة، وأن يسمح لها بالتعبير عن هذا التميز فيما لا يتصادم مع الحفاظ علي كيان كل دولة واستقرارها، وألا ينظر لهذا التميز باعتباره تهديدًا لوحدة البلاد أو دعوة للانفصال وإسقاط الدولة، فقد اعتمدت تلك الدول علي (الحديد والنار) لكبت هذا التميز أو التعبير عنه، والآن لم يعد أمامها سوى القبول به أو التنازل إلي الأبد عن فكرة "الدولة" التي يدعون لها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة