لفت نظري وقتها أنه لم يكن "تقليديًّا" في بعض مواقفه، أو ربما أكثر جرأة في التعبير عنها، فالتقيته في حديث صحفي مطوّل.
أخيرًا نطق تشاك هيجل، وزير الدفاع الأمريكي السابق، الذي "أُقيل" من منصبه في بداية هذا العام بسبب خلافات حادة مع كبار المسؤولين في البيت الأبيض، قيل له بعدها إن استمراره في منصبه لم يعد ممكنًا.
بدايةً، عرفتُ تشك هيجل منذ كان عضوًا جمهوريًّا عن ولاية نبراسكا في مجلس الشيوخ. لفت نظري وقتها أنه لم يكن "تقليديًّا" في بعض مواقفه، أو ربما أكثر جرأة في التعبير عنها، فالتقيته في حديث صحفي مطوّل تناولت فيه كثيرًا من القضايا الشائكة، وكان أكثر صراحة مما اعتدت عليه من بقية السياسيين الأمريكيين، خصوصًا في أمور تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وتفهمت بعدها لماذا زُلزلت الأرض زلزالها عندما اختاره أوباما وزيرًا للدفاع بعد إعادة انتخابه منذ ثلاث سنوات. تعرض هيجل لهجوم عنيف من أصدقائه وزملائه السابقين في جلسات استماع في مجلس الشيوخ. بعضهم مثل السيناتور والمرشح الحالي للرئاسة تيد كروز سأله بطريقة مكارثية فظّة ودون دليل عن تلقي أموال من جماعات راديكالية متطرفة. آخرون اتهموه بمعاداة السامية أو ضعف موقفه تجاه إيران.
لكن أوباما تمسك بترشيحه للمنصب ونجح بصعوبة في الحصول على موافقة مجلس الشيوخ، وكان من المفترض أن يكون هناك وفاق حقيقي بينهما. فأوباما الديمقراطي يتخذ وزيرًا جمهوريًّا للدفاع ثقةً بكفاءته وبآرائه التي تنسجم كثيرًا مع ما يطالب به الرئيس الأمريكي خصوصًا في الحرص الشديد تجاه استخدام القوة العسكرية.
إلا أن الصورة التي قدمها هيجل في حوار مطوّل مع مجلة "فورين بوليسي" تشير إلى توتر وخلافات شديدة منذ بداية توليه المنصب مع كبار المسؤولين في البيت الأبيض خصوصًا مستشارة الأمن القومي سوزان رايس. حيث يكرر الشكوى التي أثارها الوزيران السابقان روبرت جيتس وليون بانيتا من أن البيت الأبيض كان يتدخل في تفاصيل إدارة البنتاجون (وزارة الدفاع). وعندما كان هيجل يطلب لقاءً خاصًّا مع أوباما كان يُفاجأ بآخرين في الاجتماع. كما ذكر أن لقاءات مجلس الأمن القومي كانت تطول لأربع ساعات أو أكثر دون الوصول إلى قرارات حاسمة ويضيع الوقت في تفاصيل غير مهمة، حتى إنه قال لسوزان رايس إنه لن يُمضي أكثر من ساعتين في تلك الاجتماعات.
لكن الانتقاد الأهم في حديث هيجل، تركز على الأزمة السورية، حيث أشار إلى قرار أوباما عدم استخدام القوة العسكرية ضد قوات الأسد بعد استخدامها الأسلحة الكيماوية متخطيةً بذلك الخط الأحمر الذي وضعه أوباما، وقال إن ذلك كان ضربة قاصمة لمصداقية الرئيس الأمريكي وللولايات المتحدة. كما انتقد عدم وجود استراتيجية واضحة لإدارة أوباما للخروج من الأزمة، وقال إنه أرسل مذكرة مريرة إلى الرئيس وإلى سوزان رايس قال فيها: "لا توجد لدينا سياسة"، مضيفًا أن وزراء الدفاع الآخرين يسألونه باستمرار: ماذا أنتم فاعلون؟
اللافت للنظر أن هيجل يشكك في وجود مثل هذه الاستراتيجية حتى هذه اللحظة، وإن كان أشاد بزميله السابق في مجلس الشيوخ وزير الخارجية الحالي جون كيري، وقال إنه يحقق تقدمًا في سبيل التوصل إلى تسوية سياسية.
إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثلت في تردد هيجل في الاستجابة لضغوط البيت الأبيض للإفراج عن عدد كبير من معتقلي جوانتانامو بحيث يمكن تنفيذ تعهد أوباما بإغلاق المعتقل. لكن هيجل كان يخشي أن يعود بعض هؤلاء لحمل السلاح ضد أمريكا بما يُعرِّضه شخصيًّا للمساءلة، بينما كان آخرون في البيت الأبيض يرون أن هذه المخاطر تقلّ مقارنةً بفائدة إغلاق الموقع الذي تسبب في تشويه صورة أمريكا في الخارج وصار مادة دعائية للمنظمات الإرهابية.
في النهاية، خرج هيجل من "البنتاجون" بأسلوب غير لائق لا يزال يشعر بمرارته، كما أنه لا يجد تفسيرًا لإصرار بعض المسؤولين على مهاجمته حتى بعد أن قدم استقالته رسميًّا، حيث تحدث بعضهم إلى عدد من الصحف -دون ذكر أسمائهم- قائلين إن أوباما فقد الثقة في قدرة هيجل على القيادة.
في كل الأحوال، ليس هيجل أول مسؤول يخرج من الوزارة فيهاجم الرئيس. فقد نشر ليون بانيتا ومن قبله روبرت جيتس مذكراتهما التي حفلت بالانتقادات لأوباما وإدارته، لكن الوضع مع هيجل كان من المتوقع أن يكون مختلفًا. فقد كان قريبًا على المستوى الشخصي والسياسي من أوباما الذي أصر على اختياره في وجه معارضة شديدة في مجلس الشيوخ، وعندما تمت الإطاحة به في بداية هذا العام لم يكن من الصعب قراءة نظرة الحبور والتشفي لدى بعض الجمهوريين على طريقة: ألم نقل لكم؟!
لكن هيجل الذي لم يعتد السير (بجوار الحائط) أو كتمان آرائه بما فيها التي تعرّضه أحيانًا للمشكلات كما ذكرتُ آنفًا، لم يكن ليستطيع أن يكتم غيظه طويلًا، فهو في نهاية الأمر بشر، ويريد أن ينتصر لنفسه ضد من أهانوه في نهاية فترة توليه المسؤولية عن "البنتاجون". غير أن كلماته جاءت في حوار مع مجلة متخصصة، وليس في مذكرات كما فعل آخرون. ولو كان يريد نشر كتاب لربما كان من المناسب أن يصدره الآن قبل انتهاء فترة أوباما ليحظى باهتمام أكبر، لكنه كجندي سابق حاصل على أوسمة في حرب فيتنام، ربما لا يريد أن يكرر ما يفعله السياسيون، فاكتفى بحديث صحفي. لكن بصرف النظر عن الوسيلة، فإن كلماته ولا شك سيُنظر إليها في البيت الأبيض على أنها طعنة سيقفز الجمهوريون لاستخدامها في الحملات الانتخابية للرئاسة والكونجرس، وإن كان من الصعب القول إنها مفاجئة، فهذا هو حال السياسة في أمريكا، وربما يكون لسان حال أوباما الآن في السنة الأخيرة لرئاسته: تكسّرت السهام على السهام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة