التعددية القومية تصلح كأساس للتعايش المجتمعي في العديد من الدول العربية وتساعد على انهاء الحروب في الدول التي تعاني من الصراعات المسلحة
قبل عقدين من الزمن، وضع الديبلوماسي الفرنسي السابق جان ماري - جيهينو الذي كان يشرف على مركز التحليل واستشراف المستقبل في وزارة الخارجية الفرنسية كتاباً اتسم وفق بعض الذين راجعوه بالكثير من التشاؤم. فالفكرة المركزية في الكتاب كانت ان العالم - العالم بأسره - يتجه نحو «اللبننة». واللبننة كانت تعني آنذاك مسلسل الانقسامات الأميبية والعنف الذي لا حدود له الذي طغى على لبنان. ووقتها حذر جيهينو اصحاب القرار والرأي في فرنسا وأوروبا من مغبة التغاضي عن نموذج الاحتراب اللبناني. فالنسبة اليه، لم يعد لبنان بلداً صغيراً تائهاً في ثنايا الشرق الأوسط، ولكنه منذ بداية انجراره الى الحروب اصبح «يعيش فينا».
لقد أثبتت السابقة اللبنانية، في نظر الديبلوماسي الفرنسي، ان «بدائية الشرق الاوسط هي اقرب الى حداثة اوروبا مما يظنه العارفون بشؤون العالم في الغرب». هذه السابقة التي افرجت عن مخزون هائل من التفتت والتآكل سددت، في رأيه، الى الدولة القومية الاوروبية المنشأ ضربة عنيفة من الصعب ان تخرج منها من دون خسائر. لقد قامت هذه الدولة على مفاهيم المساواة والتضامن التي تخترق المكونات المجتمعية القديمة وتجد نصيراً وسنداً قوياً لها في الطبقة المتوسطة، ولكن، للأسف، يرى جيهينو أن الطبقة المتوسطة في تراجع وأن الفرد بلغ في المجتمعات الحديثة درجة من التذرر جعلته عاجزاً عن التمسك بالتضامن الاجتماعي والقومي، وأصبح مقطوع الجذور بحيث لم تعد الطبقة الاجتماعية قادرة على ان توفر له الشعور بالانتماء.
لقد بينت التطورات اللاحقة ان نبوءات الديبلوماسي الفرنسي لم تستند الى التجربة اللبنانية بمقدار ما نبعت من مناخات اوروبا الشرقية التي كانت عرضة لتطورات أطاحت الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. تلك التطورات لم تقد الى نهاية الدولة القومية، بل على العكس عززت فكرة الدولة الأحادية القومية. ففي اوروبا وخارجها ايضاً يلاحظ الأكاديميان اندريه غينغريتش وماركوس بانك في كتابهما «القومية الجديدة في اوروبا وخارجها: منظور اجتماعي انتروبولوجي» ان الاحزاب والحركات التي تحمل فكرة القومية الاحادية والمتطرفة، والتي يمكن تسميتها احزاب العنصرية الجديدة، غزت العديد من دول اوروبا الغربية والشرقية وأستراليا وجنوب آسيا.
وخلافاً للأحزاب القومية الأحادية المتطرفة السابقة التي كانت تعمل خارج اطار التنافس البرلماني وتستخدم العنف ضد خصومها، فإن القوميين الجدد اتقنوا فن الإفادة من آليات العمل الديموقراطي لخدمة اهداف غير ديموقراطية. وخلافاً للمفاهيم الغامضة التي كانت تطرحها الاحزاب المشابهة في السابق، فإن الأحزاب القومية الجديدة وبخاصة في الغرب تبدو اكثر قدرة على تحديد الأعداء المحتملين والأخطار الافتراضية الوافدة على المجتمعات الاوروبية. وهي الأكثر نشاطاً في التحريض ضد المهاجرين العرب والمسلمين بصورة خاصة. وعلى هذا الصعيد سجلت «الجبهة الوطنية» الفرنسية بزعامة مارين لوبن انتصارات انتخابية مستمرة.
أثارت موجة القومية الجديدة هذه ردود فعل مهمة في الغرب والدول الديموقراطية الناشئة. فمقابل هذه الموجة العنصرية الطابع والتي تمثل امتداداً للداروينية الاجتماعية والمشاريع الأمبريالية، تمكن العديد من احزاب اليسار التي تؤكد المساواة بين البشر من احراز انتصارات انتخابية مهمة. فضلاً عن ذلك، فقد طرحت احزاب وحركات اخرى مفاهيم جديدة ومتجددة حول المسألة القومية تسعى الى اكسابها طابعاً انسانياً مغايراً للثوب الذي البسها اياه العنصريون الجدد.
لقد تبنت احزاب وحركات سياسية فكرة التعددية القومية انطلاقاً من الواقع السائد في بلادها. ففي حين ان الأحزاب في ألمانيا وفرنسا تميل الى فكرة الأحادية القومية، فإن الأحزاب في بلجيكا وإسبانيا وكندا وبريطانيا تميل الى فكرة التعددية القومية. وفكرة الأحادية القومية لا تصطدم في ألمانيا وفرنسا بالواقع السياسي والمجتمعي نظراً لرسوخ القوميتين الألمانية والفرنسية. اما في بلجيكا وإسبانيا وكندا فإن الواقع غير ذلك، اي ان هناك اختلافاً بين حركات قومية مؤثرة وفاعلة في هذه الدول. من هنا كان على النخبة السياسية ان تأخذ الواقع في الاعتبار وأن تحد من امكانات طرح مشاريع انفصالية عن طريق التأكيد على مفاهيم الشراكة القومية والمساواة بين الجماعات والأفراد الذين ينتمون الى قوميات مختلفة.
وفي المنطقة العربية اخذ اكثر الحكومات بفكرة القومية الاحادية، او بفكرة الانتماء المزدوج بين العامل القومي العربي والخاص الوطني المحلي. وهناك عدد قليل اخذ بالتعددية القومية. ولعل المثال الأبرز على هذا الصعيد الأخير هو النموذج اللبناني. وهذا النموذج لم يعطَ اهمية كافية لأن الطاغي على المشهد السياسي اللبناني هو السمة الطائفية والمذهبية. فالصراعات الحادة التي اجتاحت لبنان مراراً كان مصدرها الفوارق الدينية والمذهبية. وهذه الصراعات جعلت الكثيرين من علماء الاجتماع والسياسة يركزون على دراسة المكونات الدينية والمذهبية للمجتمع اللبناني وحدها، ومن ثم على تفحص ودراسة النهج الذي اعتمده لبنان في التعامل مع الطوائف الدينية وعلى علاقات هذه الطوائف مع بعضها بعضاً والنظام السياسي الذي حاول ان ينظم هذه العلاقات. ولكن هذ الانشغال ادى الى اهمال جانب مهم من جوانب التجربة السياسية اللبنانية، الا وهو المتعلق بموقف لبنان تجاه الجماعات القومية داخل الكيان اللبناني.
في هذا السياق فإن من المستطاع التحدث عن فئتين مهمتين هما الأرمن والأكراد. فالدولة اللبنانية تسمح للفئتين بممارسة النشاط السياسي والثقافي والتربوي كفئات مستقلة لها خصوصيتها الوطنية بصرف النظر عن انتمائها الديني ومواقفها السياسية. وللفئتين احزابهما المستقلة ومؤسسات خاصة بهما. ولقد لعبت الأحزاب الأرمنية ادواراً مهمة عبر التاريخ اللبناني الحديث، وتمكنت هذه الاحزاب في الكثير من الحالات من التعبير عن تآلف ملفت للنظر بين الوطنيتين اللبنانية والأرمنية، ومنذ السبعينات اتجهت القيادات الأرمنية الى بناء علاقات طبيعية مع سائر اطراف الصراع المسلح في لبنان وبفضل هذه الصلات والعلاقات تمكنت من الإسهام في خلق المناخ الملائم لعودة السلام الى الاراضي اللبنانية.
وكما شارك الأرمن بنشاط في الحياة العامة في لبنان، فقد شارك الأكراد في الحياة العامة ايضاً، ولكن نشاطهم في هذا المجال لم يتبلور كفاية كما هو الأمر مع الأرمن. يعود هذا الى اسباب تاريخية وسياسية. فالأحزاب الأرمنية تشكلت قبل عقود من الزمن من تشكيل الاحزاب الكردية، ومن هنا فإن الأولى تملك خبرات لم تتكون حتى هذا التاريخ عند الاحزاب الكردية. ولكن الاكراد لم يفتهم القطار، فما زال بإمكانهم ان يساهموا بنشاط اكبر في الحياة العامة وفي ميادين التنافس السلمي والديموقراطي بين اللبنانيين.
ان تجربة التعددية القومية في لبنان هي تجربة مهمة بالنسبة الى اللبنانيين والدول العربية التي تبحث عن طريق المستقبل. وفي لبنان فإن من المفيد الحرص على هذه التجربة وترسيخها في اطار العمل السلمي والوطني وإبعادها عن الانجراف في اي مسار يضر بلبنان. ومن المفارقات ان حزب «الطاشناق» الأرمني ظل يعمل بحرية تامة في لبنان بينما صدر قرار بمنعه من ممارسة النشاط في موطنه الأصلي أرمينيا الى ان تراجعت حكومة يريفان عن ذلك القرار. وهذه الحادثة تدل على اهمية لبنان ونظامه الديموقراطي وانفتاحه الثقافي لجميع ابنائه حتى الذين يدينون بقومية اخرى او يتعاطفون معها.
ان التعددية القومية تصلح كأساس للتعايش المجتمعي في العديد من الدول العربية وتساعد على انهاء الحروب في الدول التي تعاني من الصراعات المسلحة. وهي تفتح الباب امام قيام مجتمعات عربية تبنى على المساواة الراسخة والمنصفة بين مكونات هذه المجتمعات. وإذا تمكنا من نبذ الطريق اللعين، طريق التفتيش المرضي عن كل شاردة وواردة تثير الضغائن والأحقاد داخل هذه المجتمعات ووجهنا بعض جهدنا للبحث عن التجارب والأمثلة التي تؤكد التضامن والتكاتف بين مكونات هذه المجتمعات لوجدنا ما يكفينا ويحضّنا على مغادرة الطريق الأول والسير قدماً على الطريق الثاني.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة