"داعش" والآثار في 2015: طمس الذاكرة بانحراف النص
عام 2015 كان مليئًا بفتات الآثار على أيدي تنظيم "داعش".. مدن كاملة عمرها بآلاف السنين تم هدمها وحوّل بعضها إلى ساحة قصاص للمدافعين عنها
لم يشهد عام 2001 أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحدها –على ما لها من أهمية في تغيير العالم- بل سبقتها "طالبان" بتدمير تمثال بوذا وسط أفغانستان، الحدث الذي تابعه العالم متألمًا من طمس الذاكرة الإنسانية بانحراف في تأويل النص القرآني بدعوى أنها "أصنام" تجب إزالتها من أرض مسلمة.
عداوة الجماعات الأصولية المسلحة للآثار واحدة من سماتها الأساسية، ومن أسس خطابها الماضوي القائم على محاكاة عمياء لبعض قصص السيرة النبوية منزوعة من سياقها التاريخي، مثل كل تمثلاتهم وتصوراتهم الحمقاء عن الجهاد والحياة والحكم.
ليس عجيبًا إذن أن يكون "داعش" صياد آثار، كواحد من مظاهر سيطرتهم على المناطق التي يدخلونها.
عام 2015 كان عامًا مليئًا بفتات الآثار وأشلائها على أيديهم، مدن كاملة عمرها بآلاف السنين تم دكّها وتوثيق هذا التدمير، بل وتحويل بعض هذه المناطق إلى ساحة قصاص وقتل المدافعين عنها في الموصل وتدمر، العراق وسوريا.
تقطيع أوصال الموصل
في شهر فبراير/ شباط الماضي نشر "داعش" فيديو بعد إحكام سيطرته على مدينة الموصل في العراق، الفيديو يبين تدمير آثار متحف المدينة شمال غرب العراق.
ويوضح الفيديو هدم التماثيل باستخدام المطارق وأدوات الحفر، من بينها تماثيل لآلهة تعود إلى حضارات بلاد الرافدين وتمثال للثور الأشوري المجنّح داخل المتحف يعود تاريخه إلى القرن التاسع قبل الميلاد.
مدينة الموصل التي صمدت أمام جيوش وحضارات عبرتها وتركت علامتها على مبانٍ وتماثيل، طمسها "الدولة الإسلامية" في أيام قليلة، مثل كنيسة "مارجرجس" التي أحرقها التنظيم، ولم يقتصر التدمير على المتاحف والكنائس فحسب بل امتد حتى إلى بعض المساجد القديمة مثل جامع "النبي يونس" الذي فجّره التنظيم لأنه يحتوي على ضريح، وتفجير كل المساجد التي تضم أضرحة بدعوى أنها شرك بالله.
أما أوسع عمليات التدمير للآثار في المدينة فكان في شهر أبريل، وذلك بطمس المدينة الأثرية "نمرود" أهم الآثار الأشورية في العراق على الإطلاق والتي اعتبرت أحد أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين، المدينة التي تعرضت لانتهاك كبير بعد دخول القوات الأمريكية للعراق عام 2003.
وفي نفس التوقيت دمروا مدينة الحضر الأثرية أقدم الممالك العربية في المنطقة المنتمية إلى مملكة عربايا التي ازدهرت في القرن الثاني الميلادي، ويقول شهود عيان إنهم سمعوا أصوات تفجير في المنطقة بعدها تمت تسوية المدينة بالأرض.
"تدمر" المدمّرة
ومثلما حدث مع الموصل من طمس منظم حدث مع تدمر وبشكل موسع، فبعد سيطرة الميليشيات على المدينة، بدأتها بتدمير معبد "بعل شمين" في الحي الشمالي لمدينة تدمر القديمة فوق أنقاض معبد أقدم منه. ويتألف بناء المعبد من الحرم وساحتين شمالية وجنوبية تحيط بهما الأروقة، قام "داعش" بتفخيخه وتفجيره كاملًا.
الحدث على قوته وفداحته جاء بعد ذبحهم لمدير الآثار في مدينة تدمر وعالم الآثار السوري خالد الأسعد وهو في الثمانين من عمره، والتهمة أنه "مدير أصنام تدمر" وأعدموه في ساحة عامة في المدينة، بعد أن استجوبوه عن مكان الذهب المخبّأ في المدينة.
تغيير الصورة الذهنية
كل هذا التجريف والطمس الممنهج للذاكرة الإنسانية في الموصل وتدمر وذبح واحد من أكبر علماء الآثار لم يكن كافيًا لتهدئة العصاب الداعشي، بل لترسيخ هذا العصاب لدى أطفال قاموا بتنفيذ الذبح وسط المدينة الأثرية قبل تدميرها تمامًا، والذي كان رسالة قوية إلى العالم بما سيتم فعله في هذه المدينة.
ما بعد التدمير.. السوق السوداء
على الرغم مما يبدو من التزام بالنصوص الدينية وحرفية تأويلها وذلك بتدمير ما يسمونه الأصنام، فإن هناك وجهًا آخر خفيًّا، يستغل فيه "داعش" الآثار كمصدر للتمويل، حسب تقرير أصدرته "اليونسكو" أكدت فيه أن "داعش" يتاجر في الفن والآثار لتمويل عملياته. ولفت التقرير إلى أن الاتجار في الآثار يعد ثاني أكبر مصدر لإيرادات التنظيم، بعد النفط والذي تشير تقديرات وزارة الخزانة الأمريكية إلى أنه ينتج إيرادات بقيمة مليون دولار تقريبًا يوميًّا.
ورأى التقرير أن مسلحي "داعش" يؤولون نصوص الشريعة الإسلامية لشرعنة تلك الأعمال، موضحًا أن "الخُمس" -قيمة زكوية مستمدة من القرآن الكريم- ينص على دفع خُمس قيمة غنائم الحرب أو الكنوز الخفية مباشرة للسلطة الحاكمة، لكن "داعش" تؤوّل ذلك بما يخدم مصالحها من خلال فرض ضريبة تُقدر بما يتراوح بين 20 و50% على السلع المنهوبة.