بدأ الحديث الفعلي عن إعادة العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى طبيعتها، وليس صحيحاً الحديث عن تطبيعها، فهي كانت على أعلى المستويات
بدأ الحديث الفعلي خلال الأيام الماضية عن إعادة العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى طبيعتها، وليس صحيحاً الحديث عن تطبيعها، فهي كانت على أعلى المستويات، وذات تنسيقٍ عالٍ، ووصلت إلى حد مد أنابيب المياه والغاز بينهما. لكن حكومة «العدالة والتنمية» قررت لاحقاً تجميد كل تلك المشاريع الحيوية بين إسرائيل وتركيا، واستدار أردوغان إلى جواره العربي والإسلامي، فهل كانت هذه الاستدارة إنهاء للعلاقات التركية - الإسرائيلية؟ وهل كانت هذه الاستدارة بشارة خير على المنطقة العربية والإسلامية؟ وهل مثلت طوق نجاة للحكومة التركية آنذاك؟ وآن لها اليوم أن تنزعه بعد أن تجاوزت عنق الزجاجة!
منذ الثورة العربية الكبرى في العام 1916 وخروج الأتراك من البلدان العربية، وتوجه تركيا إلى العلمانية ومحاولاتها الحثيثة أن تكون جزءاً من أوروبا، لم يبدُ على الأتراك أي نزوع إقليمي وأي انحياز إلى القضايا العربية. فمن البدايات الأتاتوركية التي استبدلت الأبجدية اللاتينية بالعربية، وأدرجت مبدأ العلمانية في الدستور في سعي إلى اللحاق بأوروبا وإعلان القطيعة مع ما اعتبرته آنذاك شرقاً متخلفاً وحضارة رجعية لن تقود تركيا الحديثة إلى الأمام والطلاق مع ثقافة الإسلام وسلوكياته وممارساته، امتداداً إلى حقبة ديميريل وأوزال ومن بعدهما، سلسلة من الأحقاب التركية التي تحمل على العرب للمساهمة في إخراجها من الأرض العربية وتتهمهم بالخيانة، وبالتعاضد والتضامن مع الدول الأوروبية التي جاءت لتتقاسم تركة الرجل المريض.
تركيا العقيدة والجغرافيا والانتماء والتاريخ واللغة والعرق، بقيت تراوح أمام أبواب أوروبا من دون أن يُسمح لها بالدخول الكامل أو الانعتاق التام من الحلم المستحيل، فاقتصرت عضويتها على حلف «الناتو» الذي كان يحتاج إلى الجغرافيا التركية كقاعدة متقدمة لمواجهة الاتحاد السوفياتي ودول الستار الحديدي أيام الحرب الباردة.
المجتمع الأوروبي بكل مكوناته منذ ما قبل «المسألة الشرقية» له موقف من تركيا، وحروب البلقان ﻻ تزال حاضرة في أذهان الأوروبيين، والتغييرات الديموغرافية والسكانية في بلاد البلقان لم تذهب من أذهانهم. أدرك الأتراك متأخرين خطأهم عندما جعلوا جُل همهم أن يكونوا جزءاً من أوروبا، ولا سيما أنهم كانوا دولة فقيرة آنذاك، وغير مرغوبة عقدياً وعرقياً وتاريخياً.
كانت إسرائيل من ضمن الأبواب التي طرقتها تركيا في توجهها إلى أوروبا وأميركا، إذ أقامت أفضل العلاقات معها منذ نشأة الكيان الصهيوني على حساب العرب حتى في المواجهات والحروب المصيرية، فكانت تركيا عمقاً لإسرائيل في كل المراحل السابقة.
ربما كان استمرار الرفض الأوروبي وتراجع حاجة «الناتو» إلى تركيا كقاعدة متقدمة بعد انتهاء الحرب الباردة، هو ما ساهم بالسماح للتيار الإسلامي بالوصول إلى الحكم في تركيا، بعد محاولات عدة قام بها أربكان وعطّلها الجيش بدعم وحماية من العلمانية التركية الراسخة.
تم الانتقال إلى حكومة حزب «العدالة والتنمية» في العام 2002 بعد بضعة أشهر من تأسيسه، من دون أن يكون هناك رفض داخلي أو خارجي، ولا سيما من إسرائيل والغرب، مع أن هذه الدول تدخلت في أمور أقل شأناً من تغير الوجه العلماني التركي بكثير.
لاحقاً تمت مساعدة الحزب على تخطي أزمة العسكر والجنراﻻت بالتدرج، لأنه كان يعد الناخب التركي بالتغيير الاقتصادي. وبتحقق ذلك عمل حزب «العدالة والتنمية» على المحيطين الإقليمي والعربي وكذلك الإسلامي، مفضلاً أن يظهر بصورة «الدولة الإقليمية العظمى» والحاضن السُنّي الأكبر في المنطقة في تعويض عن صورة «الشريك البائس» التي يئس من تحقيقها مع أوروبا.
مع مجيء حزب «العدالة والتنمية» بطابعه «الإسلامي المعتدل»، كما تمّ تسويقه وتصويره، ظهرت سياسات تركية جديدة، إذ أظهرت تركيا انحيازاً إلى الحقوق العربية في شكل لافت للنظر تجاوز اهتمام العرب بقضاياهم، فكانت لتركيا التصريحات المعروفة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، ومن ثم على غزة. وأخذ رئيس وزراء تركيا آنذاك رجب طيب أردوغان على عاتقه فك الحصار عن قطاع غزة من خلال سفينة مرمرة وقضيتها الشهيرة، ولقاء دافوس مع الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس، وهو اللقاء الذي حوّل أردوغان إعلامياً إلى «بطل قومي» تجاوز كل الحكام العرب!
وكذلك عملت تركيا على تحسين علاقاتها مع جارتها سورية بعد تأزم طويل، فمن تهديد تركي بقصف دمشق إلى تطوير علاقات توأمة اقتصادية واجتماعية وسياسية بين البلدين.
في نهاية العقد الماضي تحولت تركيا من دولة مدينة إلى دولة دائنة، بل إنها قدمت قروضاً إلى البنك الدولي. ويُعزى جزء كبير من هذا التحول إلى انفتاح اقتصادها على دول الجوار العربي التي فتحت أسواقها للبضائع التركية وشكّلت بوابة عبور لها إلى أسواق الخليج وغيرها. ومع هذا التحوّل ظهرت نيات الهيمنة الإقليمية والفوقية في التعامل لدى تركيا، وصار أردوغان لا يتحفّظ عن الحديث علانية عن أحلامه كسلطان عثماني جديد!
ومع بداية ما يطلق عليه اسم «الربيع العربي» من تونس إلى مصر وليبيا وسورية، أظهرت تركيا سياسة خاصة لا تتفق مع الأنظمة التي كانت تتعاون معها، ولا تتّفق مع الميل الشعبي السائد في الغالب الأعم، ولا تلائم مستقبل المنطقة وشعوبها. إذ سرعان ما أسفرت تركيا عن حقيقة جديدة في علاقاتها بالبلدان العربية، فاقتصرت هذه العلاقات على الجماعات الإسلامية التي تجتمع معها إيديولوجياً، فكان دعمها للأحزاب الدينية في تونس وبطرق مباشرة فجة. كما كان تعاملها مع الشؤون الداخلية المصرية لتحقيق مصالح جماعة «الإخوان المسلمين» فقط، إذ تغنت بتلك الجماعة ودعمت كوادرها الهاربة، واستضافت مؤسساتها الإعلامية، وعقدت على أرضها مؤتمراً للتنظيم الدولي لـ «الإخوان» في محاولة لإعادة تنصيب الرئيس المخلوع محمد مرسي، ولم تشأ أن تخرج أصابعها من القضية المصرية حتى اليوم.
وبغض النظر عن تباين الرؤى السياسية مما يجري في سورية والعراق ومصر وليبيا، فإن تركيا تدعم الجماعات الدينية المتطرفة فيها، وتقدم لها كل التسهيلات المطلوبة وغير المطلوبة وتشكل ممراً آمناً لها، وتبذل جهودها كلها في سبيل وصول هذه الجماعات الدينية إلى الحكم.
اليوم تجد تركيا نفسها تحت الضغط نتيجة اصطدامها غير المحسوب مع روسيا، وما أوقعت نفسها فيه نتيجة تدخلاتها في دول المنطقة، فضلاً عن البرود الذي تشهده علاقتها بدول خليجية ترى أن تركيا في علاقتها معها تحاول أن تكسب من دون أن تعطي. وفي الوقت ذاته، تبحث تركيا - المحاصرة اليوم في دائرة ضيقة - عن مخرج لها أيضاً في «إحياء» علاقاتها الطبيعية مع إسرائيل، بعد أن ساهمت في نزاعات دينية طائفية وأجّجت خلافات خطيرة في المنطقة.
تُرى، هل كان أردوغان مضطراً إلى نقض وضوئه بعودته إلى إسرائيل والتصريح علناً بأن «تركيا تحتاج إلى إسرائيل»؟ وهل تدهورت العلاقات التركية - الإسرائيلية حقاً خلال السنوات الماضية؟ ألم يكن من الأجدى أن يوقف أردوغان تدخلاته في مصر والعراق وسورية وليبيا؟ أم أن تركيا عادت إلى ما كانت عليه، إذ لم تكن سنوات حزب «العدالة والتنمية» سوى وجه آخر لتركيا لتحقيق مصالحها؟
القادم سيكشف المزيد من هذه البراغماتية والالتفافات، وسيكشف للإنسان العربي الكثير من السذاجة عندما رأى في البراغماتية بطولة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة