بعض خبراء الشؤون الإفريقية المصريين الأفارقة يؤرخون للخروج المصري من إفريقيا بوقوع حادث محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك.
بعض خبراء الشؤون الإفريقية المصريين والدبلوماسيين الأفارقة يؤرخون للخروج المصري من إفريقيا بوقوع حادث محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا عام١٩٩٥، حيث اتخذ النظام المصري وقتها قراراً غير معلن بإعطاء الظهر تماماً لإفريقيا، والانسحاب من ملفاتها ومشاكلها وقضاياها، ما انعكس علي مقاطعة الرئيس مبارك نفسه لمؤتمرات القمة الأفريقية خلال الخمسة عشر عاما التالية في عهده قبل تنحيه عن السلطة في فبراير ٢٠١١.
لكن ذلك كان للحق انسحاباً بروتوكوليًّا لا أكثر، قضي علي الحد الأدنى من الانخراط بالتواجد في الصورة، بعد سياسات فعلية ابتعدت بمصر عن محيطها القاري تاركة خلفها رصيدا سياسيا وتاريخيا كبيرا، لم يقدم له النظام الحاكم وقتها ما يكفي لصيانته وتعزيزه والإضافة عليه.
لكن تاريخاً آخر يبدو مستتراً للانقطاع المصري الفعلي عن إفريقيا، يسبق المحاول الفاشلة لاغتيال مبارك في أديس أبابا بثلاث سنوات، وتحديدا وقت استلام الدكتور بطرس غالي الكبير مهامه الدولية كأمين عام للأمم المتحدة في يناير ١٩٩٢، وبعد سنوات طويلة قضاها في المؤسسة الدبلوماسية المصرية، منها أكثر من عقد وزير دولة للشؤون الخارجية.
دبلوماسي إفريقي قالها لي ذات مرة قبل عشر سنوات أو أقل: إن العلاقات التاريخية المصرية بالنحو الذي يتذكره الكتاب المصريون حاليا، ذهبت مع ذهاب غالي إلي مكتبه الجديد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حيث كان تقريباً آخر مسؤول مصري كبير حريص علي صيانة جسور التواصل مع أفريقيا، وحريص علي تذكير قيادته السياسية وقتها بأهمية هذه العلاقات، ويتمتع بمصداقية في القارة ومع قادتها التاريخيين وزعمائها الجدد علي السواء، ولا يَظهر منه تعالٍ من أي نوع بقدر ما كان يقدمه من فهم للقارة وللدور التاريخي المصري فيها.
ما يدعم هذه الصورة بوضوح هي اعتراف غالي نفسه بأن "أبرز أخطائه المهنية هي عدم قدرته، خلال فترة عمله الدبلوماسي، على إقناع الرأي العام المصري والحكومة المصرية بأهمية القارة الأفريقية".
هذا الاعتراف المسجل قاله الرجل في مقابلة تلفزيونية علي شاشة التلفزيون المصري في يناير عام ٢٠١٠، عبر برنامج "البيت بيتك" ذائع الصيت وقتها، وهي كلمات تكفي لتفهم ذهنية صانع القرار الذى كان يدير شؤون المصريين لثلاثة عقود.
قال غالي في هذه المقابلة: "لو أخبرت دبلوماسيًّا الآن بأن خدمته ستكون في نيروبي لسألني: (هو انت زعلان منى ولا إيه يا دكتور؟)، رغم أن نيروبي أهم ١٠٠ مرة من دول أوروبا".
ولم تكن تلك فقط ذهنية أي دبلوماسي صغير، بقدر ما هي قناعة عامة لدى صانع القرار (سياسيًّا ودبلوماسيًّا) جعلت هناك حرصاً بالغاً على زيارة بولندا ورومانيا والتشيك كل عام، دون تفكير في طرق رئاسي لأبواب نيروبي ولا أديس أبابا ولا حتى جوهانسبرج مرة واحدة في عشر سنوات.
قضى غالي إلى جوار مبارك أول عشر سنوات من حكمه قبل أن يذهب إلى نيويورك لتولي مهام الأمين العام للأمم المتحدة، وكما يقول فشل في إقناعه بأهمية القارة الأفريقية، وهى دلالة واضحة على انحيازات النظام المبدئية وقناعاته الأساسية، إلى جانب أنها دلالة مهمة على حجم احتفائه بالنصح والاستشارة، خاصة إذا ما كانت قادمة من شخص مثل بطرس غالى، جزء من النظام ومن الإدارة المصرية وابن عائلة لديها انتماء تاريخي واضح لمؤسسة الحكم المصرية، إلى جانب خبراته الشخصية كواحد من أعمدة الدبلوماسية المصرية ومن كبار مفاوضيها وكعالم في السياسة والعلاقات الدولية.
لذلك لم تبنِ مصر سياسات واضحة عنوانها الواضح "نيروبي أهم"، وإن لم تكن أهم فلا تقل أهمية عن عواصم أوروبا، وهي سياسات تحركت من عقل صانع السياسي إلى الرأي العام والمجتمع كله، الذى تهمشت إفريقيا كلها في أجندة وعيه، ما جعل رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف يرد علي سؤال في ٢٠٠٩ عن "الدراسات التي تعدها أثيوبيا لإنشاء سد متوسط الحجم علي النيل الأزرق" بقوله: "لا أحد سيغلق الصنبور غداً"، وهو نهج يعبر عن سياسة ترحيل الأزمات التي أدت إلي تلغيم المستقبل.
كان نظيف مثله مثل غيره من أركان الحكم، يستهين بإفريقيا ويصدر هذه الاستهانة للمجتمع، وفي كل مرة كان يُثار فيها الحديث عن السد الأثيوبي كان الرد الرسمي استعلائي، يبدأ من تصدير إحساس بعجز الأفارقة، فلا هم يملكون إرادة التمرد على معاهدات الهيمنة المصرية على النهر، ولا يملكون الخبرات لإنجاز مشروعات بهذا الحجم، ولا يملكون التمويل ولن يمولهم أحد، فإذا كان ذلك كذلك فلماذا نبذل جهداً في التقارب والتفاهم والتعاون والانفتاح والاهتمام، إذا كان الخطر القادم من هناك مؤجلاً، وقد يفشل وحده دون تكبد عناء.
لكن ثبت أن الابتعاد عن إفريقيا تسبب في بقاء العقل المصري محتفظا بصور ذهنية عن القارة وشعوبها تجاوزها الواقع الجديد، فيما بقيت السياسات المصرية مرتكزة علي الذهنيات القديمة، وحتى السياسات التي كان يدعمها بطرس غالي خلال آخر عشر سنوات قضاها داخل دولاب الدولة كانت تعبر عن اهتمام شخصي للرجل أكثر منها سياسات دولة مستقرة وثابتة وغير متغيرة بتغير الأشخاص، بقدر ما كانت مبادرات منه، دون انتظار تكليفات رسمية كانت غالبا لا تجيء.
فشل بطرس غالي الكبير في إقناعهم أن نيروبي أهم كان فشلا مريرا، تدفع مصر فيه ثمنا فادحا، المؤكد أن تكلفته كانت ستكون أقل بكثير لو وجد من يسمعه بإنصات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة