تمدد «داعش» في فراغ. هذا مما لا جدال فيه... لكن أي فراغ؟ الشائع أنه فراغ سياسي في دولتين تعاني بنية كل منهما من أسباب لتمدد الوحش،
في أي فراغ تمدّد «داعش»؟
تمدد «داعش» في فراغ. هذا مما لا جدال فيه... لكن أي فراغ؟ الشائع أنه فراغ سياسي في دولتين تعاني بنية كل منهما من أسباب لتمدد الوحش، ما يعني أن غياب «الدولة»، خلق أرضاً خصبة لظهور مشروع «داعش». والفراغ في رواية ثانية خلقه غياب «كفاءة الدولة»، فالدولة الفاشلة تخلق مواطنين مشبعين بالسخط واليأس والعدوانية، ما يعني أن حضور هذه الدولة الفاشلة كغيابها!
والفراغ في رواية ثالثة خلقه غياب «التدين المعتدل»، وبالتالي «الخطاب الديني الرشيد»، ما استدعى مطالبات واسعة بضرورة «تجديد الخطاب الديني». لكن هذه جميعاً أنماط من الفراغ تسهم في ظهور الفكرة وانطلاق المسعى لتحقيقها، أما تحقيقها فعلياً فيسببه غياب آخر يجعل المدعوين للانخراط، كجنود، تحت راية الفكرة، وأعني بذلك الفراغ الثقافي/ الأخلاقي.
والفراغ الثقافي هو الفراغ الذي استهان به بعض النظم الفاشلة وسعى البعض الآخر إليه سعياً كضمان لاستقرار سيطرتهم السياسية على شعوبهم.
والفراغ الثقافي أو «تجريف البيئة الثقافية» يبدو، في بداية مساره، حلاً مريحاً يجعل التحكم في «بنية هرمية» على قمتها حاكم فرد، وبعض الاستسهال يفتح الباب لكوارث تسيل بسببها الدماء أنهاراً.
ومن تأثيرات الفراغ الثقافي في الجموع أنه يسهم، في شكل مباشر أو غير مباشر، في شحوب الحس الخلقي عند كثيرين. فالثقافة تعني، ضمن ما تعني، حساً بالمسؤولية يفقده من لا يعرف حدود العالم إلا بحدود جسده وغرائز جسده. هذا الفراغ يفسر انخراط الآلاف في صفوف التنظيم، وحماس مئات الآلاف وربما الملايين للخطاب الداعشي، ولو كانت هناك «مناعة ثقافية/ أخلاقية» في مجتمعات الهلال الخصيب لكانت الاستجابة لـ «داعش» أقل بكثير. فغياب الحد الكافي، بل ربما الأدنى، بالعالم وبكيفية تغيير التاريخ، وغياب «المعيار الأخلاقي» المانع من السقوط في وحل الاستباحة هما أصل المشكلة.
وفي اليابان تحت الحكم الفاشي كان تأثير المثقفين في المجتمع الياباني ضعيفاً إلى حدٍ وصفهم بـ «المستذلين الضعفاء»، وكان عزلهم وإفقارهم خيار السلطة، لكن النتائج كانت أكبر بكثير مما يتخيل أحد، فالثمن الكبير الذي دفعته الشعوب التي حكمتها الفاشية، بل العالم كله، كان أكبر مما يقدره أي مستبد يركن إلى خيار التجريف الثقافي للمجتمع هرباً من «الصداع»، لأنه عندئذ يكون قد قطع نصف الطريق نحو «التصدع».
ولا شك في أن أسباب التمدد تتعدد وتتساند وتتبادل التأثير والتأثر، وصحيح أن المنخرطين في التنظيم، وبخاصة من الجنسيات الغربية، يمثلون «مساراً فرعياً» يحتاج إطاراً تفسيرياً آخر، لكن تمدد «داعش» في البيئة العربية الإسلامية يفسره أولاً: فراغ ثقافي، هو ثمرة ممارسات سلطوية مستمرة منذ عشرات السنين أدت إلى إفقار المثقف وتهميشه وإقصائه من التاريخ. وفي هذا الفراغ، قبل الفراغ السياسي والديني، تمدد «داعش».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة