في المقال السابق عند تلك الثورة الشعبية –التي تبعتها ثورة مصرية رسمية– ضد التحرشات الإيطالية بإثيوبيا منذ العام 1931.
في المقال السابق عند تلك الثورة الشعبية –التي تبعتها ثورة مصرية رسمية– ضد التحرشات الإيطالية بإثيوبيا منذ العام 1931 والتي كانت تمهد لاحتلال تلك الدولة الشقيقة، وكنت قد اضطررت في حديثي للمثقفين الإثيوبيين في لقاء العام ٢٠٠٤ أن أدلل بالوثائق على كل ما كنت أحكيه من وقائع غابت عن الضمير المجتمعي والثقافي للبلدين، وكنا قد وصلنا في المقال السابق إلى الحديث عن موقف مصر الشعبية والرسمية بداية من المظاهرات الشعبية الحاشدة التي امتدت من الإسكندرية إلى أسوان لمطالبة الحكومة بمنع الطائرات الإيطالية من عبور المجال الجوي المصري، وبسحب المصريين العاملين في القواعد الإيطالية في الصومال وتوفير عمل لهم في الحكومة المصرية، وهما المطلبان اللذان استجابت لهما الدولة المصرية، بالإضافة إلى منح مركز استطلاع استخباري للحكومة الإثيوبية على رأس قناة السويس في بورسعيد لمراقبة حركة القطع الحربية الإيطالية العابرة لقناة السويس، بالإضافة إلى الوفد الكنسي – الأزهري الذى توجه للقاء بابا الفاتيكان، وذلك قبل أن تقوم جمعية الشبان المسلمين بتأسيس اللجنة الشعبية لمناصرة قضية الحبشة.
وقد طالبت الجمعية في أول بيان لها بإغلاق قناة السويس في وجه القطع البحرية الإيطالية، إلا أن بريطانيا المحتلة لمصر تحججت باتفاقية القسطنطينية التي تنظم حركة الملاحة في قناة السويس دوليا، والتي لا تسمح لمصر بإغلاق القناة في وجه دولة ليست في حالة حرب معها.
وقد كان رد اللجنة أن شكلت وفدا آخر –بخلاف وفد الكنيسة- توجه لمقابلة بابا الفاتيكان في ذلك الوقت لمعاتبته على إصداره بيانا يبرر فيه عدوان إيطاليا على إثيوبيا، وبالرغم من رفض البابا –للمرة الثانية- استقبال المصريين، إلا أن الوفد اجتمع مع الكاردينال الذى يتولى وزارة الخارجية في دولة الفاتيكان وسلمه الاحتجاج، ويلاحظ في هذا الشأن أن الجمعية التي تأسست، والوفد الذى بعثت به للفاتيكان كان من المسلمين وليس من أقباط مصر، وذلك في بادرة لها دلالاتها، ألا وهى أن حب مصر والمصريين لإثيوبيا وشعبها، تجاوز حدود الدين، لكى يمتد إلى مناطق حضارية وتاريخية أرحب، لها علاقة برابطة الدم.
في الوقت ذاته، فإن تشكيل هذه اللجنة عكس مدى الحب الذى تحظى به إثيوبيا في مصر، ويكفى أن نعلم أنه من بين الأعضاء شخصيات بمستوى وثقل السيدة هدى شعراوي، كما أنه مع بداية العدوان على إثيوبيا ترأس الجمعية الأمير إسماعيل داوود ابن خالة الملك فؤاد عائل مصر في ذلك الوقت، في حين لعب دور الأب الروحي للجمعية الأمير عمر طوسون حفيد إبراهيم باشا، نجل محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة، وهو ما يدل على أن موقف مصر بالتأييد المطلق لإثيوبيا كان شعبيا ورسميا على مستوى العائلة المالكة والحكومة المنتخبة.
وبمجرد بدء العدوان ضد إثيوبيا في أكتوبر من العام 1935 افتتح الأمير عمر طوسون حملة التبرعات الشعبية بـ 500 جنيه زادها إلى ألفى جنيه في غضون أيام، وهذا المبلغ يوازى في قيمته حاليا ما يقرب من 100 ألف دولار، ثم توالت التبرعات من الشعب المصري، حتى أنها فاقت التبرعات التي كانت تجمعها لجنة مناصرة القضية الفلسطينية في ذلك الوقت التي كان يرأسها السياسي البارز عبد الرحمن باشا عزام، والذى تولى فيما بعد منصب أول أمين عام لجامعة الدول العربية!
ومع تطور العدوان الإيطالي، فتح باب التطوع حيث تم تشكيل طواقم طبية من كافة التخصصات ومستشفيات ميدان مجهزة بشكل كامل، وأطقم من المهندسين، وفرق من المقاتلين، وقد قدرت أعداد فرق المقاتلين وفرق الإسناد والدعم في كافة المجالات من المصريين بما يقرب من 20 ألفا، في زمن كان تعداد مصر من السكان يقترب من 18 مليون نسمة فقط.
ومن جانبها، قامت الحكومة بمنح أجازات مدفوعة بالكامل لكافة المتطوعين، كما شاركت الحكومة مواطنيها في إرسال كميات هائلة من مواد الإغاثة الطبية والغذائية والملابس لإغاثة الشعب الإثيوبي المنكوب بالحرب.
وبعد شهور قليلة من العدوان قرر الأمير إسماعيل داوود أن يتوجه إلى إثيوبيا على رأس طواقم مصرية مقاتلة جديدة في إشارة واضحة إلى تلاحم مواقف الشعب مع الحكومة، وتلاحم الاثنين بموقف العائلة الحاكمة في مصر.
ومع اشتداد العدوان، تبدت بطولات المصريين جنبا إلى جنب مع إخوانهم الإثيوبيين سواء في أعمال القتال، أو الإسناد الطبي والهندسي، لدرجة أن اتصال رئيس البعثة الأمير إسماعيل داوود –طوال فترة بقائه الطويلة في إثيوبيا- كان مباشرا مع الإمبراطور هيلاسيلاسى، الذى كرم البعثة المصرية عدة مرات، كما أنه شارك في تشييع جنازات العديد من آلاف الشهداء المصريين الذين سقطوا قتلى خلال الحرب دفاعا عن إثيوبيا ودفنوا في أرضها، وذلك فيما عدا شهيدين اثنين رجع جثمانهما مع طاقم مصري كان عائدا للقاهرة لكى يحل محله طاقم آخر، وقد كانت جنازة الشهيدين شعبية ورسمية مهيبة اخترقت شوارع القاهرة مدة ساعات.
في صفحات التاريخ أيضا فإن إيطاليا المستعمرة لإثيوبيا لم تكن تجرؤ أن تبنى سدا تمنع به تدفق المياه الطبيعي والإلهي عن مصر، وذلك لأسباب عديدة من بينها أن إيطاليا كانت مدينة لمصر ماليا، بالإضافة إلى وجود جالية إيطالية ضخمة في مصر، ناهيك عن أن روما كانت تدرك تماما أنه بالرغم من كون مصر واقعة تحت الحماية البريطانية، فإنها لم تكن لتتردد لحظة –بالمخالفة لموقف دولة الحماية– عن الدفاع عن حقها في الحياة باستخدام القوة العسكرية ضد أي دولة تتلاعب بحياتها بتخفيض حصتها من مياه النيل.
أقول هذا للتدليل على أن مواقف مصر النبيلة الداعمة لإثيوبيا في محنها الكبرى لم تكن تحركه مياه النيل والخوف عليها بقدر ما كانت تحركها قيم مصر الإنسانية، التي للأسف غابت عن كثير من الدول التي تدعم النظام الإثيوبي الحالي في عدوانه على حق مصر في الحياة.
ولعل كلمات الوزير والسياسي الراحل عثمان محرم باشا وهو يتفاوض مع الإنجليز في لندن في العام 1933 لدفعهم للضغط على إيطاليا لوقف عدوانها، تعبر بوضوح عن نبل مصر تجاه إثيوبيا، حيث قال مخاطبا محتليه البريطانيين: "لقد ذقنا مرارة وألم الاحتلال على أيديكم، فلا نريد لإخواننا الإثيوبيين أن يجرعوا مرارة نفس كأس الاحتلال على أيدى الإيطاليين".
الشاهد، أن هذا التاريخ من العلاقات المميزة بين البلدين لم يجر تغييبه فقط عند الإثيوبي، بل المؤسف والمحير أنه غاب أيضًا عن المصريين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة