شهد الشرق الأقصى أحداثاً مهمة من شأنها التسبب بتداعيات مباشرة في المنطقة العربية كانت القنبلة الهيدروجينية الكورية الشمالية في المقدمة
ح. وسوف يكون طبييعاً من الآن فصاعداً أن تزداد الضغوط الداخلية على حكومتي اليابان وكوريا الجنوبية لامتلاك وإنتاج قوة نووية رادعة. هذا المنحى سوف يؤدي إلى إطلاق سباق تسلح نووي لن تتردد دول آسيوية أخرى في دخوله. وفي هذه الحالة سوف تتهاوى سياسة منع انتشار السلاح النووي مع ما يرافق ذلك من أخطار تهدد الأمن الدولي والسلم العالمي.
إلى جانب هذا الحدث الخطير، شهد الشرق الأقصى خلال شهر تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، حدثاً آخر يمثل الوجه الآخر للتنافس الدولي على السيطرة والتحكم في هذه المنطقة من العالم. تجلى هذا الحدث في توقيع 12 دولة من دول المحيط الهادئ على «الشراكة العابرة للباسيفيكي». ورغم ان الصين أبدت استعدادها للانضمام إلى المعاهدة في المستقبل، إلا ان الزعماء الصينيين لم يكتموا انزعاجهم من استبعاد بلادهم عن مشروع الشراكة الجديد، واستعدادهم لدخول النزال الاقتصادي والسياسي مع الولايات المتحدة اذا تمسكت واشنطن بسياسة الاحتواء.
إن هذا المشروع الاميركي المنشأ يندرج في اطار سياسة الاحتواء الجديد التي تمارسها الولايات المتحدة ضد الصين. وتترافق هذه السياسة مع استراتيجية «إعادة التمحور» التي نقلت نقطة التركيز في الاولويات الأمنية والعسكرية الاميركية من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى، ومن محاربة خطر الارهاب الدولي إلى احتواء الصين. إن هذه الاستراتيجية لا تثير قلقاً ومضاعفات في بكين وحدها، وانما في المنطقة العربية أيضاً. ففي الصين والبلاد العربية تخوف من تنمية القوات الاميركية في الشرق الأقصى على حساب الانتشار العسكري الاميركي في الشرق الأدنى. وكلا الطرفين يجد مصلحة مشتركة في تخلي الولايات المتحدة عن استراتيجية «إعادة التمحور» واستمرارها في الاضطلاع بمهام الدفاع عن الوضع الراهن، على رغم وهن هذا الوضع وتفاقمه المستمر في الشرق الأدنى.
إن تفجير القنبلة الهيدروجينية الكورية الشمالية وإطلاق مشروع «الشراكة الباسيفيكية» يتعارضان مع هذه التمنيات. فالحدث الكوري الشمالي سوف يفرض على واشنطن تكثيف نشاطها وتدخلها في دول الشرق الأقصى بقصد حثها على ضبط النفس وإقناعها بصرف النظر عن دخول سباق التسلح النووي. ولن تكتسب هذه الجهود مصداقية كافية اذا شعرت هذه الدول ان واشنطن تراجعت عن «إعادة التمحور» وعن إعطاء شرق آسيا مرتبة الاولوية في اهتماماتها الاستراتيجية العالمية. بالعكس، سوف يترتب على واشنطن ان تبرهن أنها مستعدة لتعزيز جهودها في هذا المضمار حتى تدخل الاطمئنان إلى قلوب الدول المجاورة لكوريا الشمالية وبخاصة اليابان وكوريا الجنوبية. لقد حاولت بكين انتزاع الفتيل السياسي والدعائي للقنبلة الكورية الشمالية، ومن ثم الإشارة إلى استعدادها للضغط على بيونغ بيانغ حتى تكف عن تهديد جيرانها، الا ان هذه الإشارات لم تعط مفعولها حتى الآن. في غياب مثل هذا المفعول، يبقى الطلب الياباني والكوري على الردع الاميركي- واستطراداً على إعادة التمحور- قائماً، وتبقى مخاوف حكومات الشرق الأدنى على حالها.
قبل القنبلة الكورية ومشروع الشراكة الباسيفيكية، توقع بعض الصينيين والعرب المتابعين لتطبيق سياسة «إعادة التمحور» ان تتعطل هذه السياسة بفعل جملة من التعقيدات والصعوبات التي تواجه عادة الاستراتيجيات الطموحة. وبالفعل اعترضت «إعادة التمحور» مثل هذه العقبات. فبينما كان المعنيون في إدارة اوباما يبلغون ممثلي الدول الاجنبية ان عهد الانغماس الذي قامت به إدارة جورج بوش الابن في قضايا الشرق الاوسط قد انتهى، كان جون كيري، وزير الخارجية الاميركي، يعرب في الاجتماعات المغلقة، عن شكوكه في جدوى «إعادة التمحور» وتخوفه من انهيار سياسة واشنطن الشرق اوسطية. وفي الوقت نفسه كان الإعلام الاميركي يتحدث عن هزال عديد القوات الاميركية التي نقلت إلى الشرق الأدنى بعد ان دخلت «إعادة التمحور» حيز التطبيق.
بموازاة هذه الظاهرة، أكد احد كبار مسؤولي البيت الابيض انه حتى صيف العام الفائت كانت 80 في المئة من مناقشات ومداولات مجلس الامن القومي الاميركي منصبة على أوضاع الشرق الاوسط.
ورغم ان الرئيس اوباما كان ولا يزال في مقدمة المتحمسين لتطبيق «إعادة التمحور»، الا انه وأخذاً بعين الاعتبار الحاجة إلى إبقاء الباب مفتوحاً امام الاحتمالات المختلفة في مجال السياسة الخارجية، بخاصة في المراحل الاولى من إعادة التمحور، أعلن انه من الممكن التخلي عن هذه السياسة في الحالات الاربع التالية:
أولاً، وقوع عدوان خارجي على دولة حليفة للولايات المتحدة.
ثانياً، حماية الولايات المتحدة من عدوان ارهابي جديد.
ثالثاً، ضمان تدفق النفط إلى الاسواق العالمية.
رابعاً، منع انتشار اسلحة الدمار الشامل.
إن الحالة الاولى تشكل الشرط الاهم للتراجع عن إعادة التمحور، وللعودة إلى استراتيجية «الشرق الاوسط أولاً»، أما الشروط الثلاثة الاخرى فإن القوات الاميركية المنتشرة في المنطقة تكفي لمعالجتها وهذه القوات باقية على حالها حتى إشعار آخر. فهل هناك بالفعل خطر تعرض دولة حليفة للولايات المتحدة إلى عدوان خارجي؟ يستبعد الكثيرون احتمال مثل هذا الخطر، ولكن الاسرائيليين دأبوا على تأكيد اقتراب وقوع جولة جديدة بينهم وبين «حزب الله»، ومن ثم على ان النزاع العسكري سوف يؤدي إلى تدخل ايراني ضد اسرائيل.
ورداً على مثل هذه التوقعات، يجد الاكاديميان الاميركيان ستيفن سايمون وجوناثان ستيفنيسون في مجلة «فورين افيرز» (عدد تشرين الثاني/نوفمبر - كانون الاول/ديسمبر 2015) ان ايران اليوم ليست في وارد دخول حروب جديدة، وانها لا تشكل، كما يقول الاسرائيليون خطراً على اسرائيل.
ان إطلاق مثل هذه التوقعات يقدم العذر للتخلي عن سياسة «إعادة التمحور»، فمن هو المستفيد من استمرار هذه السياسة؟ يثير تطبيق سياسة إعادة التمحور الاميركية قلقاً متنامياً في الدول العربية، فهل هذا القلق في محله؟ هذا القلق في محله لو ان العرب والاميركيين متفقون على أهداف استراتيجية واحدة وعلى طرق الوصول إلى هذه الاهداف. ولكن هذا غير صحيح. فاسرائيل هي أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة ومن أهم حلفائها في العالم. بينما يعتبر العرب، رغم معاهدات السلام المعقودة بين اسرائيل وبعض الحكومات العربية، أن اسرائيل عدوهم القومي. استطراداً فإن وجود القوات الاميركية في المنطقة يخدم اسرائيل ويسمح لها بتنفيذ مشروع «اسرائيل الكبرى» عبر بناء المستوطنات وقضم الأراضي العربية. ووجود القوات الاميركية في المنطقة يقلل من قدرة العرب على ممارسة ضغط على اسرائيل لمنعها من تنفيذ مثل هذه المشاريع. وقد يكون هذا القلق في محله أيضاً لو ان الدول العربية لا تملك القدرة على معالجة التحديات التي تجابهها، ولكن الدول العربية تملك القدرة على مجابهة التحديات الماثلة امامها في المنطقة.
وتستطيع الدول العربية مجابة هذه التحديات عبر التنسيق الجدي في ما بينها. ويقتضي هذا التنسيق توزيع الأعباء والمسؤوليات بين الدول العربية في شكل متكافئ ومسؤول وعلى مدى زمني طويل بحيث تظهر فوائده. ويمكن تحقيق مثل هذا التنسيق في اطار إنشاء «قوة عربية مشتركة» كما جاء في قرارات جامعة الدول العربية، وفي انتظام اعمال مجلس الدفاع العربي المشترك وتفعيله، وتزويده بالصلاحيات الكافية لإدارة الصراع ضد المنظمات الارهابية والمسلحة، وضد التحدي الاسرائيلي. كذلك يمكن تحقيق مثل هذا التنسيق في اطار تفعيل اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى «غافتا». وتفعيل هذه الاتفاقية يعني عدم الاكتفاء بإدخال تخفيضات هامشية على الضرائب الجمركية وانما التخلص من العوائق غير الجمركية التي تشكل العقبة الرئيسية امام التنسيق والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة