بمناسبة نهاية كل عام وابتداء العام الذى يليه، تمتلئ صفحات الصحف بالمقالات وشاشات التلفزيونات بالأحاديث والمناقشات.
تحسُن الأحداث أم تحسُن الأفكار والسلوكيات؟
بمناسبة نهاية كل عام وابتداء العام الذى يليه، تمتلئ صفحات الصحف بالمقالات وشاشات التلفزيونات بالأحاديث والمناقشات.
وتقتصر الغالبية الساحقة من تلك الكتابات وتلك الأحاديث على أمرين: الأول يتناول أحداث السنة المنصرمة بسردها ومحاولة تحليلها والحكم عليها من وجهة نظر الكاتب أو المتحدث، وهى بالطبع وجهة نظر نسبية وخاضعة للانتماءات السياسية والدينية والإيديولوجية وللمصالح الشخصية. والثانى يتناول محاولة استشراف المستقبل وتخمين ما يمكن أن يحدث خلال السنة الجديدة. وهذه السرديات والتخمينات فى أغلبيتها الساحقة تعالج بطرق غير علمية وغير موضوعية، وإنما فى شكل تمنيات وينبغيات عاطفية وشخصية.
وفى اعتقادى أن كلا الأمرين لا يزيدان عن استرجاع لقصص أحداث قديمة يعرفها الناس وعن محاولة استنباط لقصص أحداث قد تقع وقد لا تقع فى المستقبل القريب. من هنا فإن كل ذلك السرد وكل ذلك الاستشراف هو سرد تاريخى واستشراف مستقبلى عابر مؤقت يمر فى أذهان القراء والمستمعين أثناء فترة الانتقال من عام سابق إلى عام لاحق، فيثير فى الإنسان مشاعر القلق أو الفرح أو اليأس، التى هى بدورها عابرة ومؤقتة، ثم لا يلبث أن يطويه النسيان.
***
ولكن، هل المطلوب فى السنة الجديدة تبدل الأحداث وتحسنها فى هذه الجزئية أو تلك، أم أن المطلوب هو تبدل الأفكار والسلوكيات التى قادت إلى مآسى وآلام أحداث السنة الماضية، والتى إذا استمر تواجدها، أى الأفكار والسلوكيات، فى السنة الجديدة، فإن تمنيات وتخمينات الكتاب والمتحدثين لن تكون أكثر من لغو وتسالى وثرثرة؟
والسبب بديهى وواضح، وهو أن كل الأحداث الخاطئة هى نتيجة أفكار وسلوكيات خاطئة. من هنا أهمية أن تكون مناسبة الانتقال من سنة مضت إلى سنة قادمة مناسبة نقد شديد صريح لأفكار وسلوكيات السنة الماضية وعرض واضح لا غمغمة فيه لأفكار وسلوكيات جديدة أفضل وأكثر عقلانية. فالزمن الجديد الذى لا يأتى بأفكار وسلوكيات جديدة، تساعد فى حل مشاكل الماضى، هو زمن لا يستحق الاحتفاء به، وهو زمن لن يحمل أحداثا جديدة، بل سيكون استمرارا لما مضى واكتفاء بتغيير قنينة نفس الشراب القديم الرخيص المضر السام.
دعنا نأخذ مثالا صارخا على ما نعنيه. إنه يتعلق بالدور الكبير الذى لعبته الأفكار والسلوكيات الطائفية الرسمية والفئوية الشعبية فى استعمال الخلافات والتباينات فيما بين المذاهب الإسلامية، وعلى الأخص فيما بين المدرسة الفقهية السنية والمدرسة الفقهية الشيعية، ما لعبته فى تأجيج الصراعات والحروب والتهجير القسرى للملايين فى كل الأرض العربية. ألم تلعب الأفكار والسلوكيات الطائفية دورا أساسيا فى الاضطرابات والانقسامات والحروب التى عاشتها ولا تزال تعيشها أقطار من مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا وإلى حد أقل، غالبية أقطار الوطن العربى الأخرى؟
تلك الأفكار والسلوكيات أليست مبثوثة فى كثير من كتب الفقه وصادرة عن كثير من علماء الفقه ومنسوبة زورا وبهتانا إلى الأحاديث النبوية والقرآن الكريم، عن طريق قراءات خاطئة وأفهام عرفانية غيبية تتعارض مع روح الإسلام ومقاصده الكبرى؟ إلا تنشر يوميا بين صفوف الملايين من الجهلة البسطاء عن طريق المحطات الفضائية الطائفية؟
إذن فإذا لم تتغير تلك الأفكار والسلوكيات الطائفية فى ذهن ووجدان الفرد العربى والجماعات العربية، فهل ستكون السنة الجديدة حقا أفضل من السنة الماضية؟
إبراز الفكر والسلوك الطائفى مرارا وتكرارا ليس بسبب هوس أو تقليل لأهمية الأفكار والسلوكيات الخاطئة الأخرى فى حقول السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، وإنما بسبب الدور الكبير الذى يلعبه فى أحداث الحاضر من خلال الجنون الجهادى التكفيرى الذى ينتشر كالوباء بين صفوف شباب الأمة العربية والشباب المسلمين فى أنحاء المعمورة، وإنما أيضا بسبب استعمال ذلك الفكر والسلوك الطائفى استعمالا خبيثا من قبل الكثير من أجهزة الإعلام والأمن العربية ومن قبل بعض حركات الإسلام السياسى ومن قبل بعض أجهزة الاستخبارات الأجنبية ومراكز بحوثها.
***
إذ هناك أيضا الأفكار والسلوكيات السياسية الزبونية والبالغة السطحية التى لا ترى فى حراكات الربيع العربى إلا فوضى وأحلاما طفولية، وتتجاهل استبداد وفساد من منعوا الإنسان العربى من حقه فى التمتع بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
ولأنها أفكار وسلوكيات انتهازية نفعية تنادى بتخلى أرض العرب حتى عن النضالات الشرعية السلمية الجماهيرية، بحجة أنها قد تؤدى إلى هذا المحظور أو ذاك. وهى بذلك تتجاهل حق الناس فى الخروج من حياة الظلم والبطش والإقصاء عن المشاركة فى الحياة السياسية والتمييز فى الفرص الحياتية والبقاء فى أسن الفقر والمرض والتخلف.
هناك أمثلة أخرى كثيرة لأفكار وسلوكيات دمرت حياة الماضى، وستدمر حياة المستقبل إن لم تتغير إلى الأصح والأفضل والأنبل.
مناسبات توديع سنة واستقبال سنة جديدة يجب أن تنشغل بالحديث عن التغيير المطلوب فى الفكر والسلوكيات، وليس بجرد أحداث السنة التى انتهت والثرثرة عن التمنيات التى نرجو أن تأتى بها السنة الجديدة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة