يتبع معظم الدول العربية في مسألة «الدين والحكم» نموذجاً مراوغاً، فهي تستند إلى موروث ديني قروسطي
يتبع معظم الدول العربية في مسألة «الدين والحكم» نموذجاً مراوغاً، فهي تستند إلى موروث ديني قروسطي، فينصّ الدستور في معظمها على أن دين الدولة هو الإسلام، وتستند في التعليم بعامة وفي التعليم الديني الذي تقدّمه في المدارس والجامعات، إلى أهداف وفلسفة مستمدة من شمول الإسلام لكل مجالات الحياة، كما أن الدولة العربية تقوم بوظائف دينية أخرى مثل الأحوال الشخصية والإفتاء والأوقاف والمساجد، وتستلهم الدولة أيضاً في وظائفها وعلاقتها بالمجتمع والمواطنين مبادئ الشريعة الإسلامية وقيمها. لكنها في الوقت نفسه، تنشئ مؤسسات تشريعية وسياسية وإدارية تستند إلى الانتخابات العامة والقوانين والأعراف الدولية الحديثة للدول وعلاقاتها وأنظمتها.
والحال، أنه نموذج بدأ في التشكّل منذ القرن العاشر الميلادي، عندما بدأت البلاد والمناطق تستقلّ بنفسها في سلطنات ودول تقوم على فلسفية واقعية مستمدة من مصالح الناس والبلاد، وفي الوقت نفسه تتحرى الشريعة الإسلامية في الفهم والتطبيق، وترسّخ هذا النموذج في السلطة والعلاقة مع الأفراد والمجتمعات على مدى ألف سنة، ولقي فرصة للقبول والرضا كونه واقعياً في الوقت نفسه لا يتعارض مع الدين، وأتاح المجال واسعاً للاجتهاد والنظر والاقتباس من التجارب والأفكار الأخرى بمرونة وواقعية، كما أعفى الدول من أعباء سياسية واقتصادية وأمنية، ففي سيادتها على أرضها وشعبها وفي كونها قائمة أساساً لحماية مواطنيها وترابها وحدودها، لا تكون ملزمة بالمشاركة في أعباء وتحديات كبيرة وهائلة ومعقدة لا تقوى عليها دولة وتضعها في مواجهة كبيرة وفي حالة تناقض مع التزامات واتفاقيات دولية، وفي الوقت نفسه فإنه يتيح لها المشاركة والتضامن مع القضايا العربية والإسلامية والعالمية بالقدر الذي يحمي مصالحها وأهدافها والتزاماتها الوطنية والدولية.
وتظنّ الأنظمة السياسية العربية اليوم، أنها نجحت في التوفيق بين الانسجام الديني ومتطلبات المعاصرة والنظام العالمي للدول وعلاقاتها والتزاماتها، فهي تبدو جزءاً من العالم القائم اليوم بقوانينه ومبادئه ومنظماته الدولية، وتستفيد أيضاً من التضامن العالمي والالتزامات العالمية. لكن الدول العربية لا تريد أن تلاحظ حتى اليوم، أنها أنشأت حالة التطرف والكراهية والصراعات المنتسبة إلى الدين، وتحسب أنها بمشاركتها في مواجهة المتطرفين، تبرئ نفسها من المسؤولية، بل إنها دخلت في لعبة سياسية جديدة: رعاية التطرف ومواجهة المتطرفين.
لقد كان النموذج العربي في علاقته بالدين والدولة المعاصرة تلفيقياً، ليس دينياً ولا حديثاً، وليس دينياً حديثاً، فهناك تناقض بين السلوك الواقعي والمراجع الدينية المعتمدة والمتبعة في مسائل الخلافة والحكم، ما يجعل الدولة تبدو كأنها لا تطبق الشريعة أو كما تصفها الجماعات الإسلامية المعارضة «لا تحكم بما أنزل الله»، وهو أيضاً نموذج يناقض الاتجاه العالمي المعاصر القائم على الحريات الدينية والشخصية والاجتماعية، ويضعف استقلال المجتمعات والأفراد ودورها سواء في تنظيم شأنها الديني أو في عدم تديّنها، كما وضعت الأنظمة السياسية نفسها في حالة معارضة ومواجهة مع التيارات والاتجاهات العلمانية والليبرالية، والحال أنه نموذج لا يمكن وصفه إلا أنه «عربي»، فلا يندرج في رؤية دينية أو فلسفية أو سياسية محددة، وليس ثمة اجتهاد فكري أو تنظيري يقدم النموذج العربي القائم أو يفسره، ولم تكن قدرته على الاستمرار مستمدة إلا من سلطة الدولة وقوتها ومن حجب المعرفة عن الناس، وهو ما لم يعد ممكناً مواصلته في ظلّ انتشار التعليم وإتاحة المعرفة بلا حدود.
واليوم، هو نموذج يواجه تحديات واقعية كبرى، ولم تعد النخب السياسية الحاكمة قادرة على الاستمرار به، فهي لم تعد فقط في مواجهة تنظيمات وجماعات دينية متطرفة، لكنها في مواجهة تدين شعبي جارف لا يقل تطرفاً وخطورة عن تدين الجماعات الدينية، فالدول العربية اليوم على رغم كل ما تبذله من دور ديني، تبدو في نظر نفسها وفي نظر مجتمعاتها «لا تحكم بما أنزل الله»، بل إن التطرف الديني الذي يحمله ويتحرك به مؤيدون سياسيون ومنتمون الى الأنظمة السياسية لا يقل شراسة ورعباً عن «الإخوان» والسلفيين و «القاعدة» و «داعش»، ويجب الاعتراف أيضاً بأن البدائل القائمة على أساس الدين والمعاصرة ليست متماسكة، أو مجدية، وما يمكن اعتباره كذلك يحتاج الى جهود كبيرة ووقت طويل حتى يكون مفيداً، لكن ذلك لا يمنع من التفكير والاقتراح.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة