في تلك المساحة او الهامش كان لدول العالم الثالث رغم تحفّظنا علي هذه التسمية تسعيرات سياسية تتناغم مع التوجهات الايديولوجية والثقافية
قد تبدو مصطلحات كالتسعيرة والبورصة مستعارة من عالم الاقتصاد في بُعده السوقي، لكن ما تطور اليه الاقتصاد كعلم يحاول تفسير التاريخ من منطلق مادي بحت لم يجذب حتي الان من انصرفوا الي تفاسير اخري للتاريخ وجدلية النهوض والنمو مقابل السقوط والتراجع، فالاقتصاد الان وبعد ان حدثت متغيرات دراماتيكية، ان لم نقل كوبرنيكية في العالم بدأ يبحث عن جذور اخري غير مطروقة من قبل، منها الاستفادة من الداروينية، ومجمل نظرية التطور في علم الاحياء، واطرف ما نشر مؤخرا في الولايات المتحدة ضمن سياق نقدي للرأسمالية في ذروة توحشها هو الربط بين ذيل الطاووس والنظام الرأسمالي، فالطاووس كما يقول الباحث استجاب بالغريزة لدور ذيله في اجتذاب الاناث، فأصبح شغوفا بإطالته وتلوينه لكن علي حساب الجسد الهش والرأس الديناصوري الصغير، ولا يتضح لنا مفهوم التسعيرة السياسية بشكل جلي الا في ادبيات الحرب الباردة يوم كانت منطقة اللمبو كما يسميها دانتي في الكوميديا الالهية هي الفاصل بين الجنة والنار، لكن الجنة والنار في ثقافة الحرب الباردة ليست ميتافيزيقية بل هي من هذه الارض فالنظام الرأسمالي زعم بأنه الجنة او الفردوس الموعود مثلما زعمت الشيوعية انها الجنة التي تنتظر المعذّبين في الارض .
في تلك المساحة او الهامش كان لدول العالم الثالث رغم تحفّظنا علي هذه التسمية تسعيرات سياسية تتناغم مع التوجهات الايديولوجية والثقافية، لكن ما ان حسم الامر في نهاية الحرب الباردة لصالح قطب واحد حتي فقدت دول كثيرة تسعيرتها فهي لم تعد تملك من رفاهية الانتقال بين القطبين ما يتيح لها ان تكون ذات ثمن، لهذا لم تظهر مصطلحات من طراز الدولة الرّخوة او الدولة الفاشلة الا في تسعينات القرن الماضي ومنها دراسة تشومسكي الشهيرة بعنوان الدولة الفاشلة، وكذلك اطروحة الدكتور جلال امين حول مفهوم الدولة الرّخوة حين كان تركيزه علي نموذجين عربيين .
والدول الاقل حظا سواء في التقدم العلمي والتطور المدني وكذلك الوضع الاقتصادي كانت اشبه ببرادة الحديد، لا تقوي علي مقاومة المجال المغناطيسي لأي جاذب دولي، ولكل من الرأسمالية في معاقلها الاوروبية والامريكية وكذلك الشيوعية تجارب في هذا المجال منها ما تعرّض لنقد شديد كما حدث في روسيا بعد البيروستريكا وتحديدا مع وصول جورباتشوف الي الكرملين، وقد اتيح لي ان اسمع بشكل مباشر من بعض المثقفين الروس منهم اليكسي فاسلييف الذي كان سفيرا في مصر وتصدر كتابا بعنوان مصر والمصريون ثم تولي منصب رئاسة معهد افريقيا وشاغال الذي كان يرأس معهد الاستشراق ويرماكوف الذي كان يشرف علي العلاقات الخارجية في اتحاد الكتاب، وجهات نظر ناقدة للاستراتيجية السوفيتية في العالم الثالث، وشاءت المصادفة ذات مساء كنت في صحبة اصدقاء من السفراء العرب منهم سفير مصر في موسكو يومئذ الراحل احمد ماهر تاذي اصبح فيما بعد وزيرا لخارجية مصر والصديق نبيل عمرو الذي كان سفيرا لفلسطين عندما اعلن عن امتلاك العراق لما سمي الكيماوي المزدوج، وكان صدام حسين قد قال يومئذ انه قادر علي ابادة نصف اسرائيل، واذكر ان شاغال قال بشيء من السخرية وماذا عن النصف الباقي ؟
لكن يرماكوف اضاف بأن ثمن هذا التصريح سيكون باهظا، واستشهد بمصرع الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز وقال ان الملك دفع حياته ثمنا للربط عن بعد بين فلسطين والنفط، لكن الثمن الذي سوف يدفعه صدام سيكون اكبر ليشمل العراق كله، لأنه وضع النفط في يد وفلسطين في اليد الاخري، بعد ايام قليلة غادرت موسكو وفي المطار اثار انتباهي غلاف مجلة نيوزويك، وكان صورة لصدام حسين يحيط بها الدخان وكتب علي الغلاف ليالي العراق المظلمة، كان ذلك قبل عام علي الاقل من بداية الدراما العراقية التي لم تنته فصولها حتي الان !
لكن ما علاقة هذه التداعيات الشجية بتسعيرة الدول في البورصة السياسية كما تتجلي في المجتمع الدولي ؟ العلاقة عضوية وليست وثيقة فقط، فالعراق كان يراهن علي تسعيرة سياسية تنتمي الي حاسوب الحب الباردة ثم فوجئ بالتخلي السوفييتي، وهذا ما قاله لي الراحل طارق عزيز في حوار نشرته جريدة الدستور الاردنية وهو ان السوفييت باعونا بأربعة مليارات دولار، ولو اخذنا بعض دول امريكا اللاتينية مثالا وبالتحديد كوبا، فإن التسعيرة بلغت ذروتها في مطلع الستينيات من القرن الماضي واوشكت ازمة خليج الخنازير ان تكون سببا لاندلاع حرب نووية لكن ما اتت به نهاية الحرب الباردة غير السعيدة لم يغيّر التسعيرة فقط بل فتح كوة في سور فولاذي اشد تماسكا من سور الصين بين امريكا وكوبا، والبلد الذي تعرّض رئيسه لأكثر من مائتي محاولة اغتيال وحوصر لعدة عقود اصبح الدبلوماسي الامريكي يتجول علي ارصفته.
لكن دول ما سمي العالم الثالث لم تكن سواسية من حيث اركانها للتسعيرة تبعا للتجاذب او التنافر بين القوي الكبري، فمنها من التفت الي احتياطياته المادية والبشرية واستدعاها كي لا يكون رهينة ومنها من فشل في ذلك، وانتهي الي ما يسمي الان الدول الفاشلة .
وحين بدأ الدفء يسري في الدب الروسي عادت علي الفور نوستالجيا الحنين الي الحرب الباردة، وحلمت دول صغري بكل المقاييس بأن قيامتها اصبحت وشيكة وانها سوف تستعيد التسعيرة القديمة، ذلك رغم ان الحيثيات كلها تبدلت والعالم لم يعد ذا قطبين فقط بل هو متعدد الاقطاب لكن مع اختلاف منسوب القوة والنفوذ .
حتي الثقافة كانت هي الاخري تخضع لتسعيرة من طراز آخر في الحرب الباردة، وكان المثقف الذي يتعاطي بسلبية مع نظام بلاده النقدي الطامح الي استكمال الناراتيف او السردية الوطنية وهو في النهاية الاستقلال له ثمن بالنسبة للمخابرات المركزية الامريكية ودوائر الثقافة في الغرب، وما قاله العالم الراحل د. جمال حمدان في كتابه عن الاستعمار والتحرير يليق بهذا المقام وربما بكل مقام آخر ذي صلة .
ان المُقتَرَب الكلاسيكي في الاقتصاد السياسي لم يعد كافيا للكشف عن محاصيل العولمة لهذا لا بد من طرق ابواب اخري لأن ما يسميه هانكوك ممرات الاسفنج التي امتصت تسعين بالمائة من مساعدات الشمال الموسر الي الجنوب المُعسِر خلقت طبقة هي طبعة جديدة من كوبرادور القرن الماضي، واصبح للمجتمعات الفقيرة المعذّبة بكل محاصيل الرأسمالية المتوحشة من ينطقون باسمها زورا، وافتراء، والمسافة بين مثقف يحلم بالتغيير وسمسار هي التاريخ كلّه !!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة