تمر منطقتنا العربية بمرحلة عصيبة متخمة بتحديات فكرية وعسكرية واقتصادية واجتماعية
تمر منطقتنا العربية بمرحلة عصيبة متخمة بتحديات فكرية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، بل تعدى ذلك ليشمل الحدود
السياسية لدول المنطقة برمتها، مما يُشكِّل تحديًّا كبيرًا ومباشرًا على كيان دول المنطقة وهوياتها، فضلا عن التعرض سلبًا على مسيرة الحضارة الإنسانية.
فمن المعلوم أن مسيرة الحضارة سواء كانت مادية أو قِيمية تبدأ دائمًا من قِبل الدولة عبر التاريخ؛ حيث إن الحضارة لم توجد إلا على أرض لها حدود جغرافية معلومة، ويقوم بها شعبٌ ينتمى إلى هذه الحدود الجغرافية ويستوطنها، وهو خاضع لسلطة حكومة منوط بها إدارة شئون هذا البلد وتحقيق مصالح أفراده بما تمتلكه من أنواع السلطة الثلاثة، سلطة تشريعية لسن القوانين المنظمة للعلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، وسلطة قضائية، وسلطة تنفيذية.
نعم لا يتوقف صنع الحضارة عند إرادة الدولة وسعيها نحو تحقيقها، بل بمشاركة الأفراد الذين يَعْظُم عندهم الوطن وتتشرب قلوبهم بحبه، ولا جرم فإن حب الوطن فطرى غريزى نابع من شعور الإنسان بالانتماء والحنين إلى المكان الذى ترعرع فيه وأصبحت له فيه ذكريات تربطه بمن نشأ بينهم من أهل وأحباب.
والملاحظ أن الشرع الشريف قد اعتبر هذه الانتماءات الفطرية الصحيحة، حيث اعتبر مَنْ مات فى الدفاع عن أهله ووطنه شهيدًا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».
ولا شك أن هذه السمة الإنسانية (حب الوطن) متجذرة فى وجدان وشعور الإنسان المصري، وهو أمر مثبت فى الرسائل والكتابات الأكاديمية والدوريات البحثية والفكرية التى تناولت بالفحص والدراسة طبيعة البنية الشخصية المصرية فى الخطاب العلمى والثقافي، وهى سمة ثابتة لهذا الشعب، مما يقضى بوجوب المحافظة عليها وعلى هويتها، وإعادة إحياء ما اندثر منها، إسهامًا فى تنمية قدرات هذا الشعب العظيم صاحب الحضارة العريقة الممتدة عبر العصور والدول. ومن هنا ندرك استهداف الشعب المصرى من حين لآخر من خلال إشاعة الفرقة والطائفية، وإشعال مشاعر الكراهية، وإثارة الحقد وزعزعة الثقة لديه ضد قياداته ومؤسسات بلده، وهو لا شك مدخل خبيث للسيطرة على نفوس المصريين، لتحريكهم نحو أهداف خبيثة تهدف بوضوح إلى إسقاط الدولة ومؤسساتها، تحت مزاعم وشعارات رنانة كالحفاظ على الهوية الإسلامية أو تحقيق الديمقراطية وتحرير الإرادة الشعبية الحرة!
ولا يخفى أن مثل هذه الدعوات تحمل فى طياتها نسبة عالية من المكر الخبيث الذى يؤدى إلى أن يصبح الناس لا ضابط يسوسهم أو يرفع عنهم نزاعهم ويحقق مصالحهم جميعا، وهذا مآله إلى الفوضى وعدم استقرار أمور البلاد والعباد، وهو ضد مقصود الشارع من كل وجه؛ لغلبة المفاسد المترتبة عليه التى تكر على المقاصد الشرعية الخمسة - التى جاءت كل الملل بل والعقول السليمة بحفظها - بالنقصان أو بالبطلان، وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال. وانطلاقًا من الواجب الشرعى والوطنى ومشاركة فى الوقوف بإيجابية فى وجه التحديات التى تواجه المنطقة خاصة الفكرية رأيت أن أسهم فى بيان السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة وفق القواعد الشرعيَّة ومستجدات الواقع ومقتضيات العصر، مساهمة فى استقرار المجتمعات والحفاظ على الهويات والثقافات مع الترسيخ للسلم والأمن المجتمعي. وسنتعرض فى هذه السلسلة من المقالات لما يمكن أن نسميه بثلاثة محاور بصرف النظر عن ترتيبها :
أولها: تحديد المفاهيم؛ كمفهوم الدولة ومفهوم الحكم ومفهوم الوطن والجماعة الوطنية والمواطنة ومفهوم الحرية سواء كانت فكرية أو سياسية أو اقتصادية، ومدنية الدولة، وإسلامية الدولة، والدولة الدينية. أما المحور الثانى : فيتناول بيان ماهية الدولة ومسئوليتها، كضرورة وجود الدولة، ومهامها ومأسسة الدولة، ومرجعية الدولة، وسلطان الدولة فى تقييد الحق وفى تقييد المباح الشرعي، ومسئولية الحاكم عن تصرفاته، ومسئولية الدولة تجاه المواطن، ومسئولية المواطن تجاه الدولة، وحدود الدولة، ومن صاحب السيادة فى الدولة، ونظام الحكم، وآليات التغيير فى الدولة.
وأما المحور الثالث فيتعرض لبيان أوجه العلاقات، كثنائية الدين والدولة، وثنائية القيم والدولة، والدولة والشخصية الاعتبارية، والحكم والدولة، والعلاقة بين الأمة ورئيس الدولة، والقوميات والدولة، والسيادة والدولة . ولا ريب أن المعالجة الشرعيَّة لهذه المفاهيم والقضايا تسير وفق مقتضيات منهجية التعامل مع الأدلة الشرعية بعمومها مع مراعاة إدراك الواقع الذى هو محل تنزيل الحكم الشرعي، وهى منهجية الفقه الإسلامى عبر عصوره المختلفة وهى المنجية التى تبنتها الأزهر الشريف صاحب المرجعية العلمية العريقة للإسلام والمسلمين منذ أمد غير قريب، والذى يمثل الحاضنة الشرعية لفكر الوسطية فى المجتمع العالمى من التطرف والانحراف، وفى ذلك حماية للمجتمع من انتشار أفكار هدامة تؤثر على مرجعيته التى يلوذ بها عند نزول حادثة دينية أو أخلاقية له.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة