كان من بين ما صرح به في حديث له مع إحدى وسائل الإعلام الأجنبية أن الحاكم في دول العالم الثالث له شهوتان شهوة وضع القوانين وشهوة خرقها
أذكر أنه عندما جاء الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة للسلطة عام 1991، كان من بين ما صرح به في حديث له مع إحدى وسائل الإعلام الأجنبية بلغة الواثق والمتوفر على ثقافة كبيرة أن الحاكم في دول العالم الثالث له شهوتان شهوة وضع القوانين وشهوة خرقها، وتمر الأيام وتبين أنه من طينة حكام العالم الثالث الذين تحدث عنهم بامتياز، فلا يمكن وصف عهده إلا بأنه زمن الجرائم الدستورية، وكان أولها قيامه بتعديل الدستور وفتح العهدات الرئاسية كي يتمكن من الترشح لولاية ثالثة ثم رابعة بحجة إتمام تطبيق برنامجه الانتخابي، وكان ذلك التعديل بمثابة المسمار الأخير في نعش الممارسة الديمقراطية المحتضرة في الجزائر أصلا.
وها هو اليوم يطلع علينا بتعديله الدستوري الملحمي في نظر الموالاة وزمر السلطة، ويتبجح أنصاره بأهم تعديل فيه وهو غلق العهدات الرئاسية وحصرها في عهدتين فقط، بعد أن اخترق الدستور ونال من السلطة ما نال يأتي اليوم لغلق العهدات، أي منطق هذا الذي يجعل من الدستور قميصا على المقاس نوسع فيه متى نشاء ونضيق متى أردنا وكأنه ملكية خاصة وليس وثيقة وطنية مرجعية ذات بعد أكبر من أن يحتويه شخص أو تتحكم فيه عصبة مهما كانت انتماءاتها وقوتها في هرم السلطة.
التعديل الدستوري الجديد هذا الذي تتشدق به وسائل الإعلام الرسمية والتابعة لها، ويتغنى به الموالون للسلطة، لا يعدو أن يكون صورة عاكسة لحالة التردي السياسي والأخلاقي التي تعيشها البلاد، فمنذ البدء لم يكن وضع الدستور توافقيا ولا ممثلا لكافة أطياف المجتمع، واقتصر على مشاورات شكلية مع بعض الأطراف السياسية المحسوبة على السلطة في أغلبها، وحتى بعض المطالب الجوهرية التي طالبت بها المعارضة وشخصيات فاعلة مثل تحديد شكل النظام الرئاسي بشكل واضح، ووضع آلية دستورية ضامنة للمراقبة المستقلة للعملية الانتخابية لم يتم أخذها بعين الاعتبار، وجاءت التعديلات شكلية وفارغة المحتوى ولا تؤسس لوثيقة مرجعية يمكنها أن تضمن الاستقرار وتقوي المؤسسات وتمحو الغموض الذي يلف مستقبل البلاد من مختلف النواحي.
والدليل على الطابع الجدلي الذي أخذه هذا الدستور هو عدم فصله في مسألة هامة وهي مسألة الهوية، فالجزائر ورغم أكثر من نصف قرن من الاستقلال ورغم قرون وقرون من التعايش ما تزال لم تحدد بشكل واضح معالم هويتها اللغوية والعرقية، وجاء هذا الدستور ليزيد الشقاق في هذا الجانب، إذ لم يفصل في مسألة اللغة وحتى إن كان نص على كون اللغة العربية لغة رسمية، إلا أنه لم يحدد بشكل دقيق وضع اللغة الأمازيغية فمن جهة يتحدث عنها كلغة رسمية ومن جهة أخرى لا يعتبرها بعد لغة وطنية، وهو ما فسح المجال لقيام جدالات وحتى مخاصمات ونزاعات واسعة في المجتمع عكستها وسائل التواصل الاجتماعي وما تعج به من تعاليق ومنشورات مضادة حول هذه المسألة، بشكل يوحي أننا أمام صراع لغوي وإثني بين العرب والأمازيغ وبين العربية والأمازيغية، وهذه هي نتيجة وضع دستور غير مدروس وغير توافقي وغير وطني وغير جامع للأمة فيبدلا من أن يوحد القلوب نجده يثير بوادر الانقسام، بينما الواقع ينطق بلغة فولتير ومسؤولونا يخاطبوننا بلغة فرنسية عتيقة وينتهكون الدستور في مناسبات رسمية وعلنية فأين هي العربية هنا فما بالك بالأمازيغية؟؟؟ وحتى وإن كان من الواضح أن الأمر دُبّر بليل ومتعمد لإدخال المجتمع في نقاشات عقيمة وفي حروب الدونكيشوت الوهمية، لإلهائه عن القضايا المصيرية ومنها هشاشة النظام الذي أضحى غير قادر على التعامل مع أبسط التحديات، وإلهائه أيضا عن الوضع الاقتصادي المتردي وحالة التقشف التي تنذر بسنوات عجاف لشعب لم ينعم ببحبوحة السنوات السمان.
هذا التعديل الدستور الجديد ذكرني بما يحدث في أستراليا كل سنة في
"موسم الستيريلنغ"، في هذا الموسم يقوم مربّو الماشية بحملة لجمع قطعان الأبقار التي تحيا طيلة العام في البراري الأسترالية الشاسعة بشكل وحشي بعيدا عن البشر، وفي وقت معين من السنة يجهز مربو الماشية طائرات هليكوبتر صغيرة وسيارات البوغي ودراجات نارية لمطاردة تلك الأبقار الجافلة وتوجيهها نحو أماكن مخصصة لتجميعها، أين قد يبلغ عدد الرؤوس في القطيع حتى 300 ألف رأس، هكذا هي السلطة كلما حاولت استنفار القطيع السياسي في بلادنا ترمي له طعم تعديل دستوري أو موعد انتخابي مجنِّدة وسائل إعلامها ورجالاتها ومواليها ومؤسساتها، ليبدأ موسم التزاوج غير الشرعي بين إعلام مدجن ومال فاسد وساسة مستكينين، للترويج لما جاء في التعديل ووضعه في صورة الإنجازات والمكاسب التاريخية، بينما تبقى الهوة شاسعة بين الواقع المعاش وبين المزاعم المروج لها، وربما الفرق الوحيد بين قطيع الأبقار الأسترالية وبين قطيعنا السياسي، هو أن قطعان أستراليا تقاوم بشراسة في حين يستسلم قطيعنا خاضعا بلا مقاومة، ويحيلني هنا إلى فكرة قفص الدجاج في رواية "النمر الأبيض" للكاتب الهندي "آرافيند آديغا"، فتلك الدجاجات تنساق للذبح خاضعة بلا حراك أو مقاومة، فعندما يتعلق الأمر بالدستور الذي هو قوام قوة واستمرار الدولة ما كان يجب أن يتم وضعه بذلك الشكل الإقصائي والتضييقي، كما أنه سيتم إقراره بالعودة فقط لبرلمان الكل يعلم أنه فاقد للشرعية، مثلما أن واضعي ذلك الدستور فاقدون للشرعية بدورهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة