مشكلة أوباما الرئيسية منذ بدأ العمل السياسي هي أنه يستخدم من المنطق والثقافة في حديثه أكثر مما هو مطلوب في مخاطبة الجماهير
مشكلة أوباما الرئيسية منذ بدأ العمل السياسي هي أنه يستخدم من المنطق والثقافة في حديثه أكثر مما هو مطلوب في مخاطبة الجماهير، تحكمه في ذلك خلفيته كبروفيسور للقانون الدستوري. وهو عندما يتحدث إلى الناس بمنطق العقل ربما يجد استجابة من البعض، لكن المشكلة أنه يخاطب فئات كثيرة بعضها يعيش في عالم مواز لا علاقة له بأوباما ومنطقه.
حدث ذلك في اللقاء الجماهيري الذي عقده الرئيس الأمريكي مساء الخميس مع بعض المواطنين ونقلته شبكة تليفزيون سي إن إن لمناقشة الإجراءات التنفيذية التي أعلن عنها مؤخرا لفرض قيود إضافية على شراء وحمل الأسلحة النارية.
بدايةً الحقائق والعقل والمنطق مع أوباما. تصوروا أن هناك ثلاثمائة وخمسين مليون سلاح ناري في أمريكا مع المواطنين. نعم هذا الرقم صحيح. وهم موزعون على ٦٥ مليون منزل. النتيجة: أن هناك ثلاثين ألف قتيل سنويا بتلك الأسلحة، من بينهم نحو عشرون ألفا بالانتحار.
إذن أوباما محق في اتخاذ إجراءات (محدودة) لتقليل هذا الجنون الذي يجعل امتلاك شاب صغير للسلاح في منطقة مثل شيكاجو أسهل من شراء كمبيوتر، خاصة عندما يقف الكونجرس مشلولا بسبب الضغوط السياسية على الأعضاء من اللوبي القوي لصناعة وتجارة الأسلحة النارية. وما اتخذه أوباما من إجراءات هو في الحقيقة لا شيء مقارنة بدول أخرى مثل أستراليا التي تعرضت لحادث قتل جماعي واحد فرضت بعده قيودا صارمة على تلك الأسلحة. لكن أقصى ما سيفعله أوباما هو زيادة الإجراءات لضمان أن من يشتري السلاح غير مريض نفسيا أو عقليا، وليس مدانا في جرائم سابقة. ومع هذا فإنه يواجه معارضة شديدة، فنحن في أمريكا حيث يسود لدى الكثيرين اعتقاد يقول: إن الكشف عن خلفية من يشتري السلاح سيقود إلى تسجيل تلك الأسلحة ومن اشتراها وأن هذه خطوة لمصادرتها بعد ذلك وصولا إلى ما يصفه البعض بالحكومة الاستبدادية.
كلام ربما يبدو غريبا، وقد سخر منه أوباما باعتباره جزءا من نظرية المؤامرة. لكن الحقيقة أن هذا الكلام يشكل جزءا من تفكير الملايين في مناطق شاسعة من أمريكا. وقد رأيت ذلك بنفسي أثناء عمل برنامج وثائقي عن تفجير المبنى الفيدرالي الأمريكي في أوكلاهوما عام ١٩٩٦، حيث قادني العمل إلى مناطق في الجنوب الأمريكي ترتع فيها ميليشيات مسلحة عديدة. وبعض هؤلاء يجمع السلاح والغذاء استعدادا لمواجهة القوات الفيدرالية التي يعتقدون بثقة أنها ستأتي للتحكم فيهم. كانت المفاجأة أيضا عندما قال بعضهم إن الحكومة مسئولة عن إثارة البراكين والزلازل من أجل تنفيذ خططها السرية للتحكم والسيطرة. أحد أعضاء مجلس الشيوخ المحلي في ولاية كولورادو دافع في حوار لي معه عن نظرية المؤامرة العالمية ضد أمريكا وأن منظمة الأمم المتحدة هي أداة المتآمرين للسيطرة عليهم. ولم يفلح معه ما قلته له وقتها إن أمريكا هي المتهمة بفرض سيطرتها العالمية مستخدمة الأمم المتحدة كأداة طيّعة. شرحت له أيضا كيف منعت واشنطن إعادة انتخاب بطرس غالي كأمين عام للمنظمة الدولية لأنه تجرأ على مخالفة بعض سياساتها، لكنه لم يبد مدركا لكل ذلك أو مهتما به. وما يحدث الآن في كاليفورنيا ممن اقتحموا محمية للحياة البرية، هو تعبير عن هذه الفئة من الناس.
كيف إذن تخاطب هؤلاء؟ مرة أخرى يظهر أوباما البروفيسور صاحب المنطق والفلسفة التي لا يمكن أن تجدي مع هذه النوعية.
مثال على ذلك عندما وقفت امرأة شابة لتحدثه عن تجربتها الشخصية وأنها تعرضت للاغتصاب من شخص اقتحم منزلها بما جعلها تتجه لتأييد تلك الأسلحة للدفاع عن النفس، لم نجد في رد أوباما تلك المشاعر المتدفقة والدموع التي شهدناها في كلمته منذ أيام عن ضحايا الأسلحة النارية، ثم أخذ يرصد لها بعض الدراسات عن مخاطر وجود تلك الأسلحة على الأطفال في المنازل. في هذه اللحظات تذكرت الرئيس الأسبق بيل كلينتون وتصورت ما كان يمكن أن يفعل لإقناع تلك السيدة ومن يتابعون حكايتها على شاشة التليفزيون. ربما كان يقوم من مجلسه لمعانقتها بتأثر شديد ومنحها الثقة والدعم والتفهم لمشاعرها وتخوفاتها. ربما كان يعرض عليها أن يقوم بنفسه بشراء سلاح لها لأنه لا يريد لمثلها الحرمان من حق الدفاع عن النفس، وحتى يبدد ما يقال عن مؤامرته لمنع امتلاك السلاح ومصادرة ما هو موجود، ثم يشرح لها أن هدفه هو منع أمثال المجرم الذي اعتدى عليها من الوصول لذلك السلاح حتى لا يهددها مرة أخرى هي وطفليها.
أوباما لم يفعل شيئا من ذلك والنتيجة أن تلك السيدة خرجت من اللقاء أكثر اقتناعا بضرورة امتلاكها السلاح ومعارضة إجراءات أوباما رغم أنها في الحقيقة لا تمنع أمثالها من امتلاك تلك الأسلحة.
في عالم اليوم لا يكفي أن تكون على الجانب الصحيح والإنساني لأي قضية بل يجب أن تكون قادرا على مخاطبة الجمهور بالطريقة التي تكسبه لجانبك مستغلا كل وسائل الاتصال الجماهيرية الحديثة ولغة الصورة الأكثر تأثيرا. كلينتون برع في ذلك كما تحسّن أوباما، لكنه سيغادر منصبه قبل يجيدها. لقد نجح أوباما كثيرا كخطيب بارع لكن التواصل مع الناس أمر مختلف، وهو ما تميز فيه كلينتون الذي يشعر كل مستمع له بأنه يخاطبه شخصيا، وهو ما يجعله السياسي الأكثر موهبة على مدى أجيال متتالية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة