شأن الجامعات المصرية، خاصة الحكومية منها، شأن لا يهم الجامعيين فقط بل يهم مصر بأسرها، ويتعلق به مستقبل الحياة فى مصر
شأن الجامعات المصرية، خاصة الحكومية منها، شأن لا يهم الجامعيين فقط بل يهم مصر بأسرها، ويتعلق به مستقبل الحياة فى مصر. الجامعة الرسمية هى تجسيد للعقل الجمعى للمجتمع، فإن ازدهرت كان هذا مؤشراً على ازدهار هذا العقل، وإن تدهورت أو غاب دورها فى صناعة العلم والثقافة تدهور شأن المجتمع بأكمله، وإن عجزت عن تخريج المهنيين الأكفاء والعلماء النابهين والمفكرين المبدعين تدهور حال الوطن بأكمله.
ما أقوله هو من قبيل البديهيات. والرابطة الوثيقة بين الجامعة والمجتمع هى التى صنعت تقدم أوروبا، بدءاً من جامعات إيطاليا فى عصر النهضة، حتى جامعات أوروبا وأمريكا التى شهدت أبحاث ودراسات نيوتن وأنشتاين وفلاسفة العقلانية، وفى معاملها ومكتباتها انهمك بالبحث والفكر كل أصحاب نوبل، الذين صنعوا تقدم البشرية. الجامعات ليست مكاناً لتلقين معلومات لا يحتاجها المجتمع أو عفى عليها الزمن، ولكنها مكان للعلم والبحث والتعليم الحديث وانطلاق حركة الفكر وتياراته بلا حدود أو قيود. فلا جامعة مع القهر، ولا جامعة مع فقر بنيتها التحتية، ولا جامعة مع عوز أساتذتها، ولا جامعة فى غيبة معايير موضوعية للتقييم مع الحافز والجزاء، ولا جامعة إذا تحولت معاهدها إلى معاهد معادية للحرية الأكاديمية والابتكار والإبداع المنطلق.
مصطلح الحريات الأكاديمية قد يبدو مصطلحاً غريباً على العقلية الأمنية التى ظلت عقوداً طويلة متحكمة فى أمور جامعاتنا: بدءاً من التعيينات الجامعية، حتى الرقابة على الأنشطة العلمية داخل الجامعة. لا فائدة من إنكار ذلك، فهذا هو المسؤول عن التدهور المروع الذى وصلت إليه جامعاتنا اليوم، حتى أصبح من قبيل التجاوز أن نطلق عليها وصف الجامعات، إلا باستثناءات قليلة ومجهودات تنحت فى الصخر. الحرية الأكاديمية تعنى ببساطة حرية الباحث والمعلم والطالب فى كل ما يتعلق بأنشطة الجامعة، من بحث وتدريس وحوار علمى. وهناك مواثيق دولية عن الحريات الأكاديمية أكثرها شهرة «إعلان ليما» عن هذه الحريات.
ولكن نظرة الدولة منذ عقود إلى الجامعات المصرية (تلك التى ازدانت فى العصر الليبرالى بعلى مشرفة وطه حسين وأحمد لطفى السيد وعبدالرازق السنهورى وغيرهم)، نظرة الدولة إلى هذه المؤسسات العلمية التى هى روح الوطن وعقله، هى نظرة سيطرت عليها عقلية الأمن والأمن وحده، ويا ليتها كانت عقلية رشيدة. توسعت الدولة فى إنشاء الكليات النظرية لأنها لا تكلفها إلا مصاريف إنشاء مدرج كبير الحجم مزود بميكروفون يتحدث فيه أستاذ تثقل عليه أعباء المعيشة. وتوسعت فى إنشاء الجامعات الإقليمية دون أن تتوافر لها مقومات الجامعة. وأحجمت الدولة عن الإنفاق على البحث العلمى وتحديث البنية الأساسية للجامعات والاحتكاك الدولى الذى يصنع التقدم.
أذكر فى أوائل التسعينيات أن حاورت الرئيس السابق مبارك، فى معرض الكتاب، عن تدهور الجامعات المصرية، ففوجئت برده الذى نزل علىّ وعلى جميع الجامعيين كالصاعقة، قال: «نحن نسعى بجد إلى تبنى برامج التدريب التحويلى لخريجى الجامعة، بمعنى تدريب خريج الحقوق ليصبح نجاراً، وخريج التجارة ليصبح عامل محارة، وتزويد الخريجين بعربات لبيع الوجبات السريعة.. وهلم جرا». هكذا انحصرت مشكلة الجامعة لدى حكامنا فى أمرين: أولهما حشد كل من أنهوا تعليمهم الثانوى فى مدرجات مزدحمة ليتعلموا أى شىء، أو لا يتعلمون شيئاً مطلقاً، المهم ألا يضجروا من الحكومة. وثانيهما البحث عن توفير مصدر رزق كريم أو غير كريم لهؤلاء الخريجين. وكان الأساتذة سعداء بذلك لأنه يوفر لهم باب الرزق واسعاً من الكتاب الجامعى والانتدابات، وفشلت الدولة فى المسعيين. وفى الوقت الذى كانت فيه العقلية الأمنية هى الفلسفة الحاكمة للدولة فى نظرتها للجامعة، كانت تنمو داخل الجامعة وبشكل سرطانى أفكار التطرف الدينى تحت ستار ما يسمى حظر السياسة داخل الجامعة، الأمر الذى استغلته جماعة الإخوان للانفراد بالساحة وفى استقطاب الآلاف سنوياً من طلاب الجامعة، بمختلف الوسائل المعروفة وغير المعروفة. واستيقظنا فجأة على حقيقة أن جامعاتنا تحولت إلى مفارخ للتطرف والتعصب وغيبة العقل. وأصبحنا بسهولة نميز ديانات الطالبات بملبسهن، بعد أن كنا لا نستطيع تمييز نعيمة الأيوبى وسهير القلماوى ولطيفة الزيات عن زميلاتهن المسيحيات. وتساهلت إدارات الجامعات مع مسألة استشراء التيارات الدينية داخل طلاب الجامعة منعاً من (التشويش)، فى حين تشددت مع ممارسة أى نشاط سياسى آخر.
أذكر فى السبعينيات، وكنت أستاذاً مساعداً شاباً، أننى مُنعت من التدريس منتدباً فى الدراسات العليا فى إحدى جامعات الصعيد، لأنى طلبت من طلابى قراءة كتابين لوجهتى نظر متعارضتين حول تطبيق الشريعة، تمهيداً لمناقشتهما. وكان المنع لتحفظات أمنية. وأذكر أن الأمن فى جامعة القاهرة أجهض ندوة نظمتها بالاتفاق المسبق مع العميد لمناقشة تقرير شاركت فى وضعه «فى إطار مشروع الأمم المتحدة» حول وضع القضاء فى البلاد العربية. ويعلم الجميع أن شخصيات عامة بعينها كانت ممنوعة أمنياً من المشاركة فى أى أنشطة ثقافية داخل الجامعة، ومنهم الراحل العظيم يوسف إدريس وغيره من عمالقة عصره.
فماذا كانت النتيجة: تركت الأرض ممهدة أمام التيار الإسلامى السياسى للاستشراء داخل الجامعة. ولأن القيادات الجامعية كانت حريصة على بقائها فى مقاعدها، وهذا مرهون برضاء الأمن، وهدوء الأوضاع فى الجامعة، والاقتصاد فى النفقات، فقد انصرفت تماماً عما هو ضرورى للارتقاء بالجامعة. انصرفت القيادات الجامعية عن تحديث البنية الأساسية للجامعات من مكتبات ومعامل، وأصبحت تجارة الكتاب الجامعى، وإن كانت تجارة غير مشروعة أخلاقياً، معترفاً بها فعليا، يجبر فيها الأساتذة الطلاب على شراء كتبهم، التى لا تعدو أن تكون تكراراً ممسوخاً لأفكار الأقدمين وكتاباتهم. ودخلت المكتبات الجامعية إلى ذكريات التعليم الجامعى فى زمن مضى. وانصرف الأساتذة إما إلى البحث عن الرزق فى ظل أجور هزيلة يتقاضونها، أو البحث عن المناصب بمنافقة السلطان. وأصبحت عملية تقييم الطلاب فى كليات الأعداد الكبيرة عملية هزلية، تقيس بشكل متعجل للغاية قدرة الطالب على حفظ ما نقله أساتذته عن غيرهم.
أما عن الحريات الأكاديمية، التى بدونها لا تكون الجامعة جامعة، فيكفى أن أحيلكم إلى خطاب حديث وجهه أحد رؤساء الجامعات منذ عدة أيام إلى عمداء كلياتها هذا نصه: «السيد الأستاذ الدكتور عميد كلية... تطبيقاً لنص المادة 104 من قانون تنظيم الجامعات، يتم التنبيه على السادة أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة نحو عدم إصدار أو نشر أى مقالات أو موضوعات أو الظهور بأى من وسائل الإعلام إلا بعد الموافقة المسبقة من رئيس الجامعة، وسوف يطبق القانون فى حالة مخالفة ذلك. تحريرا فى ٢٧/ ١١/ ٢٠١٥.
أصابتنى دهشة بالغة عندما اطلعت على هذا الخطاب، وراجعت المادة 104 من قانون تنظيم الجامعات، فوجدت نصها كالتالى: «لا يجوز لأعضاء هيئة التدريس أن يشتغلوا بالتجارة أو أن يشتركوا فى إدارة عمل تجارى أو مالى أو صناعى أو أن يجمعوا بين وظيفتهم وأى عمل لا يتفق وكرامة هذه الوظيفة. ولرئيس الجامعة أن يقرر منع عضو هيئة التدريس عن مباشرة أى عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها».
أى أن السيد الموقر الأستاذ الدكتور رئيس الجامعة المرموقة يريد من الأساتذة أن يصمتوا وألا يتحدثوا فى الشأن العام للرأى العام. المادة ١٠٤ من قانون الجامعة التى يشير إليها هذا الكتاب الفضيحة تتعلق بالاشتغال بالتجارة. ولا يهم رئيس الجامعة (وأظن أن مثل هذا الكتاب قد عمم فى عدد من الجامعات) أن يتاجر الأساتذة بكتاب جامعى، هو بضاعة علمية منتهية الصلاحية، ولا يهمه المجاملة فى منح الدرجات العلمية، ولا يهمه الوساطة فى تعيينات الأبناء والأقارب، ولا يهمه انصراف الأساتذة عن واجبهم فى البحث والتدريس، ولا يهمه أن لجان الترقية أصبحت أحياناً لجاناً للمجاملة أو تصفية الحسابات، ولكن كل ما يهمه ألا يتحدث الأساتذة لوسائل الإعلام امتثالاً لتعليمات من طلبوا منه ذلك.
السيد الأستاذ الدكتور رئيس الجامعة، أحيطكم علماً بأن كلاً من طه حسين وشوقى ضيف وسهير القلماوى وعائشة عبدالرحمن وعبدالوهاب خلاف وزكى نجيب محمود وتوفيق الطويل وغيرهم من العشرات من قادة الفكر من أساتذة الجامعة، كانوا يقدمون أحاديث أسبوعية فى الإذاعة المصرية، ويكتبون بصفة دورية فى الصحافة لإشاعة ثقافة التنوير، دون أن يطلبوا إذناً من رئيس الجامعة وقتئذ، لأنه لم يكن يتلقى تعليمات من المسؤول عن الأمن.
.. وللحديث بقية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة