كنت قد كتبت عن زيارتي لبيت الشيخ سيد النقشبندي قبل عدة سنوات, اليوم أعيد بناء علي طلب بعض الرسائل نشر بعض الأسرار التي عثرت عليها
(1)
منذ أن كتبت عن الشيخ مصطفي إسماعيل في صنايعية مصر, لا تنقطع الرسائل التي تطلب إضافة الشيخ سيد النقشبندي إلي القائمة قائلة أن الكتابة عن صنايعي التلاوة جملة ناقصة تكتمل بالإشارة إلي صنايعي الإنشاد, كل فن منهما يتمم أثر الآخر في وجدان المصريين الروحاني,
كنت قد كتبت عن زيارتي لبيت الشيخ سيد النقشبندي قبل عدة سنوات, اليوم أعيد بناء علي طلب بعض الرسائل نشر بعض الأسرار التي عثرت عليها في بيت النقشبندي.. صنايعي الإنشاد.
(2)
كانت نظرة الواحد للشيخ سيد النقشبندي نظرة عابرة في حدود تواشيح ما قبل آذان المغرب في رمضان, و لكن ذات يوم كنت أفتش عن تراث الغناء في كتالوج شركة صوت القاهرة, طلبا لأعمال الكبار الذين أعرفهم اسما لكن لا مساحة للتعرف علي أعمالهم حيث لا انترنت بعد, وفي إحدي المرات بينما أتنقل بين صفحات الكتالوج سمعت من يغني( تحلو مرارة عيش في رضاك.. ولا أطيق سخطا علي عيش من الرغد) بينما الكورال خلفه يضبط الإيقاع بترديد جملة واحدة( مولاي إني ببابك) لا يتوقف عنها مهما حلق المنشد بصوته بعيدا عن المقامات و اللحن و الإيقاع, أذكر جيدا أنني أردت أن اسأل البائع عن اسم المغني لكنني وجدتني غير قادر علي ابتلاع ريقي و تعثرت الكلمات بشدة قبل أن يخرج السؤال,( الشيخ سيد النقشبندي) قال البائع, لم يكن شريط الكاسيت يحمل صورة للشيخ سيد و لكن منظرا طبيعيا و بالداخل مكتوب أن الأغنية( كلمات: عبد الفتاح مصطفي, وألحان: بليغ حمدي), خرجت عائدا إلي بيتي سيرا علي الأقدام و الصوت لم يفارقني بعد, وصلت فنمت منهكا من ثمة تحليق فرضه علي الشيخ سيد, ثمة عاصفة اقتلعت البيت و تركتك في العراء, كان البيت هشا لانه بلا جذور وكانت علامات الاستفهام الوجودية شروخ تنتشر في كل جدرانه, ثم جاء النقشبندي بدون مقدمات كقرار إزالة هو في حد ذاته مناسبة لان تبني بيتك من جديد.
بعد ايام كنت في الطريق إلي طنطا أبحث عن اي شيء له علاقة بهذا الرجل.
(3)
أفتش في طنطا عن أي شيء يخص( الشيخ سيد) قبره, عائلته, مع أول سؤال وجدت شخص يقودني من يدي إلي حفيد الشيخ سيد( الشيخ أحمد), هو اندهش من كون الصحافة لازالت تذكر جده, خفت أن أقول له لست هنا كصحفي لكن لم أشا ان أفسد فرحته بالامر.
كنت أول أحفاده لذلك كانت لي عنده مكانة خاصة, كان يرسل لي سائقه بسيارته الصغيرة و يستأذن والدي أن أحضر معه الحفلات و الليالي التي يحييها, كنت أقف مع البطانة التي تضم شقيق الشيخ سيد و أصدقائه, وكان كل مرة يسحرني صوته فأترك البطانة وأذهب لأقف إلي جواره, كان يفرح, وفي مرة أعطاني الميكروفون قائلا( انشد) كان عمري عشر سنوات ولم أفعلها من قبل, شجعني فأنشدت فصار يقدمني للناس في كل مرة.
(4)
كان يعيش في جنوب الصعيد لا يفكر في أن يغادره, زاره( السيد البدوي) في المنام و أخذه تحت إبطه باستقبال طيب و حنان وافر, فغادر الشيخ سيد فراشه متجها إلي طنطا, و استقر في منزل تطل شرفته علي مسجد( السيد البدوي), ولمس الونس في جواره, و عندما تصدع المنزل و أوشك علي الإنهيار ذهب إلي محفاظ الغربية و طلب منه أن يوفر شققا لسكان هذا المنزل في مساكن المحافظة, فاستقروا جميعا هناك إلا هو فقد استطاع أن يخفف الحمول علي المنزل بما يكفي لأن يتحمله بمفرده ليهنيء كيفما شاء بالجوار.
(5)
كانت ابتسامة احدي بنات الشيخ سيد تتسع بشكل غريب كلما قالت كلمة( الشيخ سيد),( الشيخ سيد ماكانش بيسلم علي حد.. كان بياخده بالحضن علي طول),( الشيخ سيد كان هايم في حب الله و مش مشغول بالدنيا),( الشيخ سيد لما سجل التواشيح للإذاعة قال لهم مش عايز فلوس بس طلعوني أحج)( الشيخ سيد كان بيدخن كتير بس ياخد نفسين من السيجارةو يرميها)( الشبخ سيد فضل محافظ علي وظيفته في الأوقاف كمقريء لقرآن الجمعة في جامع( سيدي سالم) كان يخلص شغل و يقعد علي سلم الجامع و يوقف المحتاجين طابور يوزع عليهم صدقات الناس و الزكاة)( وردة كانت بتعشق الشيخ سيد و لما قابلها في مرة عند بليغ و قال لها بنتي مابتسمعش غيرك لقيناها بعد يومين داخلة علينا البيت في طنطا وقضت معانا اليوم)( الشيخ سيد لما يكون رايق كان يقعد يغني لنا لايق عليك الخال بتاعة عبد الحليم)( الشيخ سيد اتشهر برة مصر الأول و بعيدن جابوه يغني في مولد السيدة زينب و بالصدفة بابا شارو سمعه و أخده الإذاعة)( الشيخ سيد هو اللي قرأ في جنازة أبو الرئيس السادات بعدها السادات جابه ينشد في فرح بنته بعدها قال لهم احبسوا النقشبندي و بليغ مع بعض لحد ما يطلعوا حاجة.. فكانت مولاي إني ببابك).
(6)
كنت أحاور(عمار الشريعي) و حكي لي قائلا: كنت عازفا في الفرقة الموسيقية التي نفذت أول أعمال الشيخ سيد, بعد ذلك شاءت الظروف أن نعمل سويا في تنفيذ أغنية جديدة, وكنت أنا الفرقة بمفردي.. وكنت أغني خلفه- كنت البطانة يعني- وفي هذه المرة استطعت أن أشاهده بشكل أفضل.
مرة أخري عملت معه وهو متوفي.. بعد وفاته أحضر لي أحد المسئولين شرائط للشيخ سيد لم تذع من قبل وأخذت منها صوته وقمت بتركيب الموسيقي عليه, لنقدم بصوته أشهر التواشيح التي تذاع يوميا في رمضان: الله.. الله.. يا الله.
قال عمار: كان رجلا بسيطا يحب ما يفعله و كان كل طموحه أن يخرج ما يقدمه بشكل جيد و أن يتوفر له قبل التسجيل قطعة حلاوة طحينية يجلي بها صوته.
تذكرت آخر كلمات ابنة الشيخ سيد:
( مافيش حد مهتم بسيرته خالص مش عارفة ليه), صمتت بعدها ثم قالت:( بس أصلا الشيخ سيد ما كنش عايز حاجة من الدنيا).
(7)
.. قرأ الشيخ سيد قرآن الجمعة في مسجد التليفزيون ثم خرج و زار أخاه و أعطاه ورقة قال له لا تفتحها إلا وقت اللزوم, عاد إلي بيته, ثم مات, فتح الأخ الورقة فوجد الشيخ سيد قد كتب فيها( ساموت غدا, لا تقيموا مأتما و اكتفوا بنشر النعي, وادفنوني في العنوان المذكور), في العنوان المذكور وجدوا مقبرة جاهزة بلوحة رخامية تحمل اسم الشيخ سيد, سألوا إن كانت قيمة المقبرة قد سددت بالكامل فقالوا لهم سدد ثمنها كاملا منذ عدة أيام.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة