لم تعد مأساة مضايا تستدرج المزيد من الأوصاف ولم يعدالعمل على ردّ المقيمين فيها إلى سويّة التوحّش سرّاً يُلحّ على الفضح والإشهار.
لم تعد مأساة مضايا تستدرج المزيد من الأوصاف والتعريفات، ولم يعد تجويعها والعمل على ردّ المقيمين فيها إلى سويّة التوحّش سرّاً يُلحّ على الفضح والإشهار.
لقد أُشبع الوصف وأُشبع التعريف وكلّ شيء صار مكشوفاً.
لكنّ بيئة سوريّة – لبنانيّة لا تني تستخفّ بتلك المأساة، أو تنكرها أصلاً، أو، وهذا أسوأ الأسوأ، تسخر ممّن يعانونها وتشمت بهم.
والحال أنّ السذاجة فحسب هي التي تقترح علينا اعتبار البشر تجسيداً لنبل خالص ودائم.
إلاّ أنّ ردود الفعل المذكورة هي ممّا لا يكفي الذكاء ولا الخبث لجعلها مفهومة، خصوصاً أنّ أصحابها يجهرون بها مثلما يجهر البشر العاديّون بحاجاتهم العاديّة إلى الهواء والغذاء وسواهما.
وراء ذلك تقيم بالطبع الدرجة القصوى التي بلغها تفتّت مجتمعاتنا وتكارهها، بحيث سقطت أوراق الحجب والتخفّي والتورية جميعاً.
لقد صار واضحاً، بل فاقع الوضوح، كيف أنّ إرادة عدم العيش المشترك تفوق بلا قياس إرادة العيش المشترك، وكم أنّ الحاجة ماسّة لمراجعة أشكال الاجتماع الوطنيّ وصيغه في سائر بلدان المشرق المتنابذة.
لكنّ هذا الانشطار النوعيّ يأتي محمّلاً بأثقال وخلفيّات يسعها تفسير بعض الأوجه السوداء لردود الفعل تلك.
فبيئة الإنكار أو الشماتة لن تستطيع، حتّى لو ربحت حروبها عسكريّاً، أن تنفي خسارتها الكبرى لمعناها ولعلل وجودها.
ذاك أنّ الثورة السوريّة وباقي الثورات العربيّة، حتّى بهزيمتها وبالتغيّر الذي طرأ على طبيعتها، نجحت في أن تنتزع مفهوم «الثورة» من تلك البيئة «الثوريّة».
ويكفي أدنى الإلمام بالعقود الأخيرة لمعرفة أنّ «الثورة» كانت أهمّ ممتلكات تلك البيئة وأهمّ تجاراتها الرابحة.
وكان من الممكن، في هذا الاستحواذ على «الثورة»، إيصال الكذب إلى مديات قصوى، كأنْ يصنّف نظام كالنظام الأسديّ نظاماً «ثوريّاً»، وُلد من رحم «ثورة»، أو كأنْ تُخترع قضيّة كمزارع شبعا، وتتعرّض للنفخ المتواصل، من أجل تبرير بندقيّة «حزب الله»، وهو أيضاً «ثورة» بطريقته.
وما فعلته الثورات العربيّة، لا سيّما منها السوريّة، أنّها أنهت هذا الاستحواذ الكاذب والمتجبّر، فيما غيّرت معاني «الثورة» ومضامينها، منعطفةً بها عن تزوير المعاني التقليديّ الذي جعل «الوحدة والحريّة والاشتراكيّة» و»تحرير فلسطين» النسغ المغذّي لـ «الثورة».
وهذا إنّما يفسّر الاحتقان والتوتّر اللذين يرفدان المشاعر الطائفيّة ويؤجّجانها. فكأنّ ما أصيبت به البيئة الممانعة، وما تردّ عليه بهذه الجلافة وهذا النقص في الحساسيّة، إنّما يرقى إلى فقدان عالمها الحميم وشرط بقائها الشارط.
والأمر اليوم يفقد كلّ طابع نظريّ أو افتراضيّ لمصلحة انقشاع وشفافيّة هائلين.
فحين يكون «حزب الله»، حزب الثورة مدفوعةً إلى سويّة المقاومة، هو مُجوّع مضايا ومحاصرها يكون كتاب الكذب قد أتمّ فصله الأخير.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة