الإعلام في "سبوتلايت" و"حقيقة".. السينما تُقارب أحوال المهنة واشتغالاتها
هوليوود معتادةٌ على إنتاج أفلام تتوغّل في أحوال "مهنة المتاعب"، في علاقتها بالسياسة وفضائحها، وفي كشفها بعض الخفايا..
ليس فيلما "سبوتلايت" (Spotlight) لتوم ماكارثي و"حقيقة" (Truth) لجيمس فاندربيلت، المُنتجان في العام 2015، أول عملين سينمائيين أمريكيين يتناولان وقائع العمل الصحافي ـ الإعلاميّ في تناوله قضايا عامّة، في السياسة والاجتماع والاقتصاد وأصول المهنة وأسئلتها وخفاياها، ذلك أن هوليوود معتادةٌ على إنتاج أفلام تتوغّل في أحوال "مهنة المتاعب" هذه، في علاقتها بالسياسة وفضائحها، وفي كشفها بعض الخفايا، وفي فضحها أشياء من المُبطَّن، وفي عوالم التنافس الحاصل بين محرّرين ومراسلين مثلًا.
فضائح
وإذْ يبقى "كلّ رجال الرئيس" (1976)لآلن ج. باكولا أحد أبرز الأفلام السينمائية المنخرطة في ثنايا العلاقة الصدامية بين الصحافة المكتوبة وعالم السياسة ودهاليزها ومتاهاتها ـ من دون تناسي "المواطن كين" (1961) لأورسون ويلز، الذي يتناول سيرة أحد أبرز أقطاب الصحافة والإذاعة في أمريكا في النصف الأول من القرن الـ 20 ـ، فإن "حقيقة" فاندربيلت يُشكّل امتدادًا سينمائيًا لمعنى التوغّل الإعلامي المرئيّ في فضائح سياسية، يؤدّي لاحقًا إلى تفعيل مواجهة أمنية ـ استخباراتية ـ مالية للكشف الإعلامي للفضيحة، وهو كشف مرتكز على وثائق ووقائع وشهادات حيّة، وإذْ يؤدّي روبرت ريدفورد أحد الدورين الرئيسيين في فيلم باكولا إلى جانب داستن هوفمان، فإنه يستعيد هذا النوع من الأداء التمثيلي في "حقيقة" إلى جانب كايت بلانشيت هذه المرّة، وإنْ في هيئة مذيع تلفزيوني مؤثِّر في المشهد الإعلاميّ المرئيّ، علمًا أنه يؤدّي دور مراسل إعلاميّ يُشرف على التدريبات الأولى لمذيعة جديدة (ميشيل بفايفر) في "لقطة قريبة وشخصية" (1996) لجون آفنت.
"كلّ رجال الرئيس" يُعيد رسم الملامح الواقعية المختلفة للحكاية الحقيقية للصحافيين كارل برنشتاين (هوفمان) وبوب وودوورد (ريدفورد)، العاملين في "واشنطن بوست"، اللذين يكشفان "فضيحة ووترغايت" (أجهزة تنصّت ومراقبة في أروقة المقر العام للحزب الديمقراطي الأمريكي) في يونيو 1972، المؤدّية إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون في 9 أغسطس 1974 (في العام 2008، يُحقِّق رون هاورد فيلم "فروست/ نيكسون"، الذي يستعيد وقائع حوار تلفزيوني بريطاني مع الرئيس المستقيل في العام 1977). أما "حقيقة"، فيعود إلى القصّة الواقعية أيضًا، التي يُفجّرها فريق عمل برنامج "60 دقيقة" (المحطة التلفزيونية الأميركية "سي. بي. أس.") قبل أسابيع قليلة على موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام 2004 (انتخاب ثانٍ للرئيس جورج بوش الابن): فضح تهرّب بوش الابن من الخدمة العسكرية مطلع سبعينيات القرن الـ 20، بفضل العلاقات العامة والقوية لعائلته بمؤسّسات رسمية أبرزها الجيش الأمريكي.
في المقابل، يذهب "سبوتلايت" إلى دهاليز الفضيحة الجنسية داخل الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن، من خلال إعادة سرد القصّة الحقيقية لفريق عمل صحافي في "بوسطن غلوب"، بقيادة الصحافي المحنّك والتر "روبي" روبنسن (مايكل كيتون)، ينقّب عن الخفايا خلال 12 شهرًا مطلع الألفية الثالثة هذه (يتوقّف العمل على الموضوع أسابيع عديدة إثر الاعتداء الإرهابيّ على الولايات المتحدّة الأمريكية في 11 سبتمبر 2011)، بتحريضٍ من رئيس التحرير الجديد مارتي بارون (ليف شرايبر). خفايا تهزّ الكنيسة، المتّهمة بحماية "متورّطين" في التحرّش الجنسي بمراهقين، وتُربك الاجتماع الأمريكي في المدينة.
مايكل كيتون نفسه يؤدّي، في "الجريدة" (1994) لرون هاورد أيضًا، دور رئيس تحرير صحيفة نيويوركية يواجه تحدّيات جديدة، عائلية وشخصية ومهنية، بقبوله منصب رئيس تحرير صحيفة نيويوركية أخرى. في "سبوتلايت"، يقود فريق التحقيق الصحافي، فيجد نفسه بين سطوة إدارة التحرير وحساباتها ومصالحها، وحماسة العاملين معه (مارك روفالو وراشيل آدامز وبريان دارسي جيمس)، وردود الفعل الاجتماعية الخاصّة بمسؤولين في الكنيسة وجميعاتها الخيرية والمجتمع المدني ـ العلمانيّ برمّته.
نموذج سينمائي
يُقدّم فيلما "سبوتلايت" و"حقيقة" نموذجًا سينمائيًا جديدًا عن معنى العمل الصحافي ـ الإعلامي ومهنيّته وأخلاقياته ووظيفته الأساسية. يرتكزان على توازنٍ دراميّ ـ جماليّ بين آليات الاشتغال المهنيّ وحساسية الموضوع وكيفية مقاربته، والتأكيد الدائم على أصول المهنة ومتطلّباتها الأخلاقية، انطلاقًا من السؤال التقليدي عن دور الإعلاميّ ـ الصحافيّ الذي يُفترض به ألاّ ينحصر فقط في نقل خبر أو تقديم معلومة، بل أن يتجاوزهما إلى الكشف والفضح وإعلان الوقائع، شرط أن يتمّ هذا كلّه وفقًا لمعطيات مؤكّدة، ففي السياق الدرامي للفيلمين، هناك لحظات عديدة تضع الإعلاميين ـ الصحافيين أمام أنفسهم ومهنتهم وأخلاقياتها، وأمام المواضيع التي يشتغلونها: المعلومة المؤكّدة، بدءًا من كيفية الحصول عليها، وصولًا إلى كيفية التأكّد من صحّتها.
يتشابه الفيلمان في مسائل عديدة: اعتمادٌ موفَّق وجميلٌ (وآسرٌ أحيانًا) على عددٍ من أنجح الممثلين وأكثرهم نجومية وحضورًا وبراعة أداء، وارتكاز على سيناريو محكم الكتابة ومتين البنية الدرامية، واشتغال متماسك على المعالجة والسرد ومتابعة الوقائع، وتنفيذ توليفٍ وتقطيعٍ يتناغمان معًا في بناء المسار التصاعديّ للحبكة الأصلية، ومآزقها وخفاياها وتأثيراتها هنا وهناك. يتشابهان أيضًا في كيفية توغّلهما البصريّ في خفايا المهنة وأسئلتها، وإن لم تُطرح الأسئلة والخفايا بشكل كباشر، إذ يتمّ تمريرها بمواربة سينمائية داخل حوارات مكثّفة، تحتمل عمقًا دراميًا ـ فنيًا وثقافيًا ـ إنسانيًا موزّعًا على المهنة والعالم خارجها، ذلك العالم المعرّض دائمًا لملاحقة المهنة له.
بالإضافة إلى هذا كلّه، يتميّز الفيلمان بصراع من نوع آخر: المهنة ومصالح القيّمين عليها. يُدرك إعلاميون وصحافيون أمريكيون اختيار "الوقت المناسب" للكشف والبوح وسرد الوقائع والحقائق، ويتوقّف الفيلمان عند هذه المسألة طارحًا سؤالها: في "سبوتلايت"، هناك فترة عيد الميلاد، خصوصًا أن الاجتماع الأمريكي في بوسطن ملتفٌّ حول الكنيسة وما ترمز إليه، من دون تناسي تداعيات جريمة "11 سبتمبر 2001". في "حقيقة"، هناك تزامن بين تحديد لحظة الإعلان عن الموضوع والانتخابات المقبلة. وهذا جزءٌ طبيعيّ من آلية العمل؛ لأن "السبق المهنيّ" لن يجد صداه المطلوب إن تمّ الكشف عنه "في لحظة خاطئة" أو "غير موفّقة".
فيلمان يتضمّنان أجمل المفردات السينمائية في مقاربتيهما أحوال مهنة، ومصاعبها ومخاطرها وتحدّياتها.
(*) يُذكر أن "سبوتلايت" حقّق 27 مليونًا و618 ألف دولار أمريكي كإيرادات داخل الولايات المتحدّة الأميركية، بين 6 نوفمبر 2015 (بدء عروضه التجارية) و7 يناير 2016؛ بينما بلغت الإيرادات المحلية لـ "حقيقة" مليونين و518 ألفًا و394 دولارًا أمريكيًا بين 16 أكتوبر 2015 (بدء عروضه التجارية) و7 يناير 2016. علمًا أنهما عُرضا في برنامج "سينما العالم" في الدورة الـ 12 (9 ـ 16 ديسمبر 2015) لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي"
aXA6IDE4LjIxOS4yNS4yMjYg جزيرة ام اند امز