تتبلور في هذه المرحلة الدموية نزعة عربية قومية ترفع الإسلام المعتدل شعاراً لنفسها وللعالم، وتحدّ من أطماع الإسلام السياسي القومي
تتبلور في هذه المرحلة الدموية نزعة عربية قومية ترفع الإسلام المعتدل شعاراً لنفسها وللعالم، وتحدّ من أطماع الإسلام السياسي القومي وأخطار الإرهاب اللابس ثوب الإسلام.
والحال أن الإسلام السياسي عندما يصل إلى سدة الحكم يجد نفسه أمام مفترق، فإما طريق الأممية الإسلامية التي تهدم مؤسسات الدولة بمعناها الوطني او القومي لتحضر في صورة أيديولوجيا دينية نقيّة تعتبر نفسها مهيأة للامتداد في العالم الإسلامي، على رغم معوّقات الوطنية والقومية واللغة والمأثور الاجتماعي. والطريق الأخرى هي التآلف مع القومية وتغذيتها بالأيديولوجيا الدينية بما يضفي شيئاً من القداسة على الحاكم (يُفضّل هنا أن يكون معمماً وإذا تعذّر أن يكون مدنياً يكثر من الاستشهاد بالقرآن والحديث).
الطريق الأولى اعتمدها «الإخوان المسلمون» في مصر ورئيسهم محمد مرسي، فحطوا من شأن الوطنية المصرية ورموزها وصولاً إلى تحطيم تماثيل طه حسين وغيره، وعقد بعضهم العزم على تحطيم الآثار الفرعونية كونها تستحضر في رأيه عبادة الأوثان، وقد فشل «الإخوان» في تطويع المجتمع المصري ودولته العميقة، لكون المجتمع المصري قادراً على استيعاب المختلف. وهنا تحضر أمثلة لا تحصى لشخصيات وأفكار غريبة جعلها المصريون أليفة «من أبناء البلد».
لم يعتمد محمد مرسي نهج إيران وتركيا في مصالحة الإسلام والقومية، ولم يستجب تحديداً لنصائح رجب طيب أردوغان حين زار القاهرة مهنّئاً «إخوانه» بحكم مصر وناصحاً إياهم بقيادة دولة ذات بنية علمانية، كشأنه في حكم تركيا.
«الإخوان» يكتفون من الجهاد اليوم بعرقلة الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمصريين، من باب «عليَّ وعلى أعدائي»، فيما يبدو الإسلام السياسي المتآلف مع الوطنية والقومية، ممثلاً بإيران وتركيا، الحاضر الأكبر في الشرق الأوسط، على رغم مواجهته تحدّيات عدة، أبرزها الإرهاب المسلح الرّافع شعارات متزمتة تخيّر المسلم بين الخضوع أو الموت قتلاً. وإذا كان الإرهاب يبدو عدواً لدولة الإسلام السياسي القومية، فهو في الواقع أداة لقيادات هنا وهناك، في هذه الدولة أو تلك. لذلك نلاحظ ارتباك دلالات الجرائم الإرهابية وتعدّد قراءاتها والغموض الذي تشكّله لأي مراقب عقلاني.
تركيا دولة إسلام سياسي قومية في عهد رجب طيب أردوغان وحزبه، وهي تحاول مزج النزعة الطورانية بالإسلام السياسي الأكثري، مقدمة نفسها لأوروبا دولة حديثة، وللعالم الإسلامي وريثة شرعية للعثمانيين، ولأتراك العالم مركزاً يرعاهم أينما كانوا: من خليج البوسفور حتى شمال الصين.
وإيران تملك المواصفات نفسها، مع الفارق: إنها طوّعت الإسلام الشيعي بواسطة نظرية «الولي الفقيه» لتؤهله لحكم دولة إسلامية، دولة أدركت بسرعة عجزها مذهبياً عن قيادة العالم الإسلامي فعمدت إلى الضغط على شيعة هذا العالم ليعتبروها قائدة لهم. وأن قوميتها الفارسية ذات امتداد يمثل جزءاً كبيراً من إيران لكنه لا يتجاوز حدودها.
على صعيد آخر، يبدو العالم العربي، بمشكلته الفلسطينية المزمنة وبارتدادات زلزال ثورات الربيع، بمثابة الساحة الأثيرة للإسلام السياسي القومي في صيغتيه التركية والإيرانية. هنا تصارعت أنقرة وطهران وتتصارعان بالواسطة، حتى ضاق العرب بالمآسي الإنسانية التي يخلفها هذا الصراع. وبدأت في التبلور نزعة قومية عربية تتمحور الآن حول المملكة العربية السعودية، وهي مرشّحة للنمو لتعود للعالم العربي صورته القومية المعتدلة (بخلاف صورتيه الناصرية والصدّامية)، وصورته الإسلامية المنفتحة على العقائد الأخرى، والمرشحة للتخلُّص من العصبيات الإرهابية. وفي هذا المعنى سيحضر العرب، ولو بعد حين، باعتبارهم علامة سلام يحتاجها العالم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة