«هل تعرفين ما هى قلعة الحصن؟» يسألنى ابنى دون أن يرفع رأسه عن الكتاب. نعم، أجيبه باقتضاب. نصمت فيسأل مجددا
«هل تعرفين ما هى قلعة الحصن؟» يسألنى ابنى دون أن يرفع رأسه عن الكتاب. نعم، أجيبه باقتضاب. نصمت فيسأل مجددا: «وهل تعلمين ما هو قصر الحير الشرقى؟» أهز رأسى بإشارة نعم. «نعم ولا أريد أن أتحدث عن الموضوع الآن» أقول بشكل تلقائى، متجاهلة نظراته المستغربة. أعرف فورا أنه لن يعتقنى.
يقرأ ابنى كتابا اسمه الفرسان، أسترق النظر إلى الصفحة الكبيرة الملونة فأرى صورا لسبعة مبانٍ تشرح تطور القلاع عبر التاريخ. فى الصورة قلعتان من سوريا، قصر الحير وقلعة الحصن. قصر الحير فى البادية السورية بناه الخليفة الأموى هشام بن عبدالملك ضمن نطاق مدينة أثرية كاملة كانت منتجعا للخليفة فى العصر الأموى، وقلعة الحصن هى قلعة صليبية تقع ضمن جبال الساحل السورى وتعتبرها منظمة اليونسكو قلعة تاريخية، سجلت على لائحة التراث العالمى. أشعر بقلبى يهبط من مكانه تاركا فراغا أسودا يمتد من صدرى إلى أخمص قدمى: لم أصطحب الأولاد لزيارة هذه المعالم فى رحلاتنا السابقة إلى سوريا، فقد كانا صغيرين وكانت المعالم فى مخيلتى باقية، فكما زرتها فى صغرى مرارا كان سيزورها أولادى، دون أن أعير الموضوع حينها أهمية، فمن المؤكد أننا فى يوم ما كنا سنضع صورتنا العائلية التى سنلتقطها على مدخل قلعة الحصن أو قلعة حلب فى إطار فى غرفة المعيشة فى بيتنا. أما الآن، فترانى أنظر فى صفحات الكتاب لا أصدق أننى لم أزر هذه القلاع سوى مرتين أو ثلاثا فى حياتى.
فى محاولة لملء الفراغ الأسود الذى تركه قلبى داخلى حين هبط، أقرر أن أتذكر زوايا محببة إلى فى دمشق، أنتقل من قلعة الحصن إلى قلعة دمشق، أدخل سوق الحميدية المكتظ وأندس بين المشاة. أصل إلى الفسحة الكبيرة فى آخر السوق فيظهر أمامى المسجد الأموى بعد القوس الرومانى. يعمينى النور فى هذه البقعة لثوان فأثبت نظرى على حائط الجامع، أستذكر عدد المرات التى تواعدت فيها مع صديقات وأصدقاء عند زوايا مختلفة من هذه الساحة الساحرة. ألتقى فى خيالى بصديقة، فنلف معا حول سور الجامع من الطرف الأيمن، وندخل حارة صغيرة ونحن نناقش التحضيرات لحفلة خطوبتها، وصعوبة إقناع والدتها بأنه لا داعى لقطع قالب جاتوه كبير أمام المدعوين، فقد أصبحت هذه العادة مكررة كثيرا فى الحفلات.
نقف أمام بيوت جميلة قديمة تحولت إلى مطاعم أو فنادق، وبيوت يُخَيَل لنا أنها ما تزال مسكونة. ربما لم يعد الكثير من السوريين يعيش فى منازل كتلك التى تسمى مجازا فى سوريا «بيت عربى قديم»، بالإشارة إلى اختلافها عن شقة فى عمارة سكنية حديثة نوعا ما، لكن ما زالت ذاكرة سوريى المدن الكبيرة تحتفظ بصورة عن «البيت العربى»، قد تتغير قليلا من مدينة لمدينة، لكنها تتشابه فى النمط المعمارى العام وفى ألفة وتآلف وحميمية العائلة داخلها. ورغم أن هذه المنازل ما زالت موجودة فى أحياء معينة من المدن السورية، إلا أنها عموما قد تم هدمها لتحل محلها، فى نصف القرن الأخير، عمارات سكنية عالية قضت بشكل كبير على الطابع المعمارى والاجتماعى والمجتمعى لما سبقها، من بيوت تتوسطها نافورة ماء وحديقة داخلية تصطف الغرف حولها. وقد لا نجد اليوم، بين أبناء آخر جيلين فى سوريا، الكثيرون ممن عاشوا فعلا فى تلك البيوت، إلا أنهم غالبا ما يكونون قد عاصروا أحد أفراد عائلتهم ممن سكنوها أو ما زالوا يسكنوها فزاروهم فى الأعياد، ومشوا فى حارة ضيقة فى صباح شتوى بارد، أمطرت فيه سماء المدينة فغسلت الأحجار القديمة التى بنيت بها تلك البيوت الجميلة.
***
لو دخلت الصديقتان إلى أى بيت من هذه البيوت صباح ذلك اليوم أو غيره لوجدتا المنظر ذاته: الخبز الطازج على الطاولة، قرب إبريق الشاى والسكرية، صحنا اللبنة والزيتون، طبق صغير فيه زيت الزيتون وطبق مماثل له فيه الزعتر، ثم طبق مربى، على الأغلب مربى المشمش أو النانرج أو الكباد وصحن الجبنة البيضاء. سيرحب بهما أهل البيت، ثم يسألونهما عن أصلهما وفصلهما، وإن كانتا من أقرباء فلان الذى رحل إلى رحمة الله فى العام الماضى، أو علان الذى تزوج بنت الجيران فى أول الحارة.
«من بيت مين أنتو؟ والوالدة من بيت مين؟ والنعم والله.» فى سوريا، وفى المشرق عموما، يتم وضع الناس فى أطر اجتماعية واقتصادية ودينية بمجرد أن يكشفوا عن اسم عائلتهم. يتساءل البعض، وخصوصا أبناء الأجيال الجديدة، أحيانا كيف يمكن بكلمة واحدة الحكم على أصل وفصل الشخص، وتفنيد قصة عائلته بهذه الطريقة التى تبدو وكأنها لا مجال فيها للتشكيك. «أصلهم إقطاعيين بس رجالهم عينهم لبرا»، أو «طول عمرهم تجار قماش من وقت العصمليين» «بالإشارة إلى الحكم العثمانى الذى انتهى فى سوريا، كما فى العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى».
قد نتساءل «كيف يمكن أن يعرف السورى أسماء عائلات شعب يفوق عدد أفراده الـ 20 مليونا، فتسمع أحدهم يؤيد زيجة أو يستنكرها بسبب اسم عائلة». «عمرنا ما سمعنا عنهم، ما منعرف الاسم، خلينا نسأل ونشوف»، بل وتمتد هذه الملاحظات عبر الحدود فى ما كان يسمى ببلاد الشام، بالإشارة إلى دول المشرق كسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وحتى تلك الأجزاء من العراق المتاخمة لسوريا، فيتذكر الأجداد قصصا عن التاجر المقدسى الذى كان يتردد إلى دمشق للتجارة فتزوج فيها زوجة ثانية، فغضبت الزوجة الأولى فى القدس إنما اضطرت أن تتآلف مع الموضوع حين أتى بها وبأولادهما للاستقرار فى دمشق بعد النكبة. «والله اشترى بيت طابقين وحط كل واحدة وأولادها بطابق، بس الفلسطينية ما سامحته، حتى وهى عم تموت ما رضيت عنه».
***
«ماما، ماما ردى على، ليش قلتيلى أنه ما بدك تحكى عن القلعة فى سوريا؟» يصر ابنى فيعيدنى فى طرفة عين إلى اليوم، إلى القاهرة، إلى ذلك الفراغ الأسود فى داخلى، يسلب منى دون أن يعى ذلك لحظات متبلة برائحة القرفة والكمون كنت قد غرقت فيها فى مشوار أتخيله مع صديقة لم أرها منذ سنوات، فمشينا معا فى سوق البهارات نبحث عن فناجين زرقاء كانت تريد شراءها، لتوزعها على المعازيم فى خطوبتها بعد ملئها بالملبس الأزرق والزهرى. أنظر إلى ابنى فيفهم «ماما، لما تخلص الحرب ممكن تاخدينى نزور قلعة الحصن؟».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة