منذ أيام ألقى الرئيس الأمريكي " أوباما" خطابه الأخير حول حالة الاتحاد، وهوما يعني أن أيامه في البيت الأبيض باتت معدودة
منذ أيام ألقى الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" خطابه الأخير حول حالة الاتحاد، وهو ما يعني أن أيامه في البيت الأبيض باتت معدودة في انتظار بداية حملة رئاسية شرسة لاختيار رئيس جديد يخلفه، ولكن رحيله لن يكون كسابقيه لأنه سيخلف وراءه إرثا تاريخيا باعتباره أول رجل أسود ومن فئة الملونين عموما يتبوأ الرئاسة في بلد العم سام الأبيض، غير أن ذلك لن يشفع له في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه وبغض النظر عن أصوله العرقية يبقى رئيسا لأقوى دولة في العالم، وله ما له وعليه ما عليه على امتداد عهدتين.
دافع أوباما طبعا عن حصيلته في خطابه الأخير حول حالة الاتحاد، ولم يترك الفرصة تمر ليطمئن مواطنيه أن بلدهم ما تزال هي الأولى والأقوى عالميا، وأنه لا الإرهاب ولا الخوف من التراجع الاقتصادي يمكنهما أن يزحزحا أمريكا عن موقعها الريادي، ودعا لمزيد من الانسجام الاجتماعي وتفادي الأحكام المسبقة والنمطية عن الإسلام والمسلمين، ونبذ ثنائية البيض والسود في إشارة لأحداث فيرغيسون ونيويورك، ودافع حول رؤيته الخارجية بشأن تجنب التدخل العسكري في مناطق معينة والانسحاب من أفغانستان، والاتفاق النووي مع إيران وتطبيع العلاقات مع كوبا والسعي لغلق معتقل غوانتانامو ودعوته للكونغرس للموافقة على استخدام القوة العسكرية ضد داعش.
ولكن أوباما تجاهل في خطابه عددا من التحديات التي تطرح بحدة أمامه فيما تبقى من عهدته الثانية والأخيرة وأمام من يخلفه بل وأمام مستقبل أمريكا ككل، ففيما يخص الصدارة الأمريكية للعالم، يبدو أن "باراك أوباما" سار على نهج سابقيه في تهوين التخوفات من التراجع الأمريكي بشكل شعبوي واستعراضي وليس استنادا إلى حجج مقنعة، فقد جادل أوباما بأن الحديث عن التراجع الاقتصادي ما هو إلا خيال سياسي وأن أمريكا ما تزال القوة الأقوى في العالم، غير أنه غاب عن باله أن القراءة الواقعية والأكاديمية لواقع هيكل أو توزيع القوة في النظام الدولي الحالي تشير إلى وجود عدة مخاطر تتهدد التفوق الأمريكي، وهي تهديدات موجودة حتى وإن حاول أوباما ومؤيدو خطابه من سياسيين وأكاديميين تجاهلها، حيث دأبت الإدراكات السياسية والأكاديمية في القوى الكبرى عبر التاريخ بما في ذلك الولايات المتحدة على إدمان وهم التجاهل والتغاضي عن مؤشرات التراجع والسقوط، لأن عادة التربع على القمة تعمي المتربع عن النظر للقعر حيث تتربص سنن التداول الكونية بأسياد العالم يوما ما، مما يجعل أمريكا تقع وفقا لهذه الرؤية فيما يسميه "جابور شتاينجارت" في كتابه الملحمي "الحرب من أجل الثروة" بـ "خداع الذات" عندما لا تؤدي طرق كثيرة بما فيها التجاهل أو عدم تجسيد إدراكات حتمية التغيير للقيام بأي عمل يمكن اعتباره كافيا للحفاظ على ريادتهم، فإرساء شيء من أجل تغيير الوضع القائم يمكنه في الحقيقة الحفاظ على الوضع القائم كما يقول "شتاينجارت" دائما.
فالقراءة المتأنية لخريطة القوى العالمية، تبين أن الولايات المتحدة الأمريكية تخسر نقاطا هامة أمام قوى أخرى على رأسها الصين، وتراجع الولايات المتحدة الأمريكية هو رمزية ودلالة على تراجع الغرب عموما أمام الشرق، فتنامي وتزايد حجم آسيا في التجارة الخارجية والتصنيع والكفاءات العلمية والاختراعات والإبداع معناه تراجع غربي بالضرورة، وتعامل أمريكا مع هذه الوقائع ليس بالعقلانية والكفاءة اللازمتين لأنها ما تزال ترى في ريادتها حقا مشروعا وأزليا ومن غير المتوقع تغيره، وهذا ما جعلها تعتبر كل محاولة صعود تهديدا لمكانتها وقوتها، وهذه في حد ذاتها مشكلة كبرى، فكما يقول "شتاينجارت": "إن مجتمعا يحب وضعه القائم بشكل يجعله يرى في تغييره هجوما غاشما على أسلوب حياته، لن يستطيع التشبث بمكانه في ترتيب الأمم... فالتغيير مطلوب للحفاظ على الوضع القائم"، والتآكل في القوة الأمريكية موجود رغم ما يغطي عليه من حقائق مثل المكانة المرموقة للجامعات الأمريكية والقوة العسكرية الضخمة والمتطورة والاقتصاد الواسع والمتنوع والقدرة الإبداعية والابتكارية مثلما جادلت وزيرة الخارجية السابقة "هيلاري كلينتون"، غير أن الأزمة المالية العالمية لعام 2008 وتراكم الديون السيادية لتكون الأعلى عالميا قد شكلت موجة خامسة لتآكل القوة الأمريكية كما جاء في دراسة "جوزيف جوفي"، إضافة لصعود الصين، وفاعلية وحيوية آسيا، وعودة روسيا ومزاحمتها لواشنطن في سوريا، وعجز الولايات المتحدة عن إرساء سلام في الشرق الأوسط، وإفلات أمريكا الجنوبية من قبضتها بعد صعود اليسار في أرجائها، واستمرار صورتها القاتمة عالميا، وخصوصا في العالم العربي والإسلامي، كلها معطيات كان ينبغي أن يأخذها أوباما بالاعتبار قبل أن يبعث رسالة طمأنة هي أشبه بالهدية الملغومة لشعبه في خطابه الأخير، لأنه اتبع أسلوب الإنكار وآفة القوى الكبرى عبر التاريخ كانت دائما الإنكار (أي إنكار التراجع) كما يقول "جوزيف ناي" في مقاله الرائع الذي ترجمه للعربية الباحث "أحمد محمد أبوزيد" تحت مسمى "مبني للمجهول: مآلات القيادة الأمريكية للنظام الدولي".
وحتى على المستوى الداخلي عانت أمريكا في عهد "أوباما" من اختلالات بنيوية واجتماعية وثقافية عميقة، فقد تفاقمت العنصرية والهوة بين البيض والملونين خاصة السود، والشرطة الأمريكية ساءت صورتها بشكل كبير بسبب تعاملها اللاإنساني في حالات كثيرة وإفراطها في استعمال القوة، مما أشعل شرارة أعمال عنف في فيرغيسون ونيويورك وغيرها من المدن بعد مقتل مواطنين أسودين في عمليات للشرطة، مما خلق أجواء وأعمال عنف وتوتر وتخريب لا تليق بصورة القوة الأولى عالميا، وكانت كانعكاس لشقاق اجتماعي لم يستطع انتخاب رئيس أسود لعهدتين متتاليتين أن يرأبه، كما شكلت حوادث إطلاق النار المتكررة ديكورا مميزا لعهد أوباما الذي لم يستطع حبس دموعه وهو يؤبن الأطفال ضحايا الهجوم على مدرسة في "نيوتاون" بولاية "كونيتيكيت"، وشكلت عملية إطلاق النار في كلية بجامعة بولاية "أوريغون" وما خلفته من ضحايا في أكتوبر 2015، فرصة أخرى لطلب الرئيس أوباما من الكونغرس إصدار تشريع لضبط وتقييد امتلاك الأسلحة، على عكس ما ينص عليه الدستور الأميركي للولايات المتحدة في التعديل الثاني على حق المواطن في الاحتفاظ وحمل السلاح والذي تم اعتماده منذ 1791.
ورغم نجاح "أوباما" التاريخي في تمرير قانون الرعاية الصحية واستفادة ملايين الأمريكيين من التغطية في هذا المجال وارتباط القانون باسمه "أوباما كير"، إلا أن التحديات الداخلية التي لم ينجح أوباما كغيره من الرؤساء الأمريكيين في التعامل معها تبقى أكبر من تلك الخارجية، وكثيرا ما كانت التحديات الداخلية وراء تراجع القوى الكبرى تاريخيا أكثر من التحديات الخارجية، فكما يقول "شتاينجارت": "على مر التاريخ كانت إخفاقات المجتمعات العظيمة تبدأ دائما كإخفاقات من الداخل"، فأمريكا لم تصل إلى مرحلة التصالح مع الذات ومع تعدد الأعراق والألوان، فرغم انتخابها لرئيس أسود إلا أنها لا تعترف بأصوله المسلمة ولم يسبق أن تم كتابة أو نطق اسمه كاملا غالبا لمجرد أنه يحمل اسم حسين كدلالة على الأصول الإسلامية لوالده، ولا تزال الصور النمطية تطارد المسلمين، ولا تزال الإدراكات السيئة لصيقة باللاتينيين والسود، ولا يزال الملايين يعيشون تحت خط الفقر، ولا تزال الفروق الاجتماعية بارزة بين فقراء معدمين بدون حتى مأوى، وبين أغنياء يمتلكون أصولا تفوق مداخيل دول مجتمعة، فأوباما الذي لم ينجح في سن قانون لضبط حمل السلاح، ولم ينجح لحد الآن في إغلاق معتقل غوانتانامو، ولا في حمل الكونغرس على السماح بشن عمليات عسكرية ضد داعش، والتاريخ سيتذكر حقبته كحقبة متناقضات ازدادت فيها معاناة السود والمسلمين رغم أنه إفريقي ووالده مسلم، وأقصى ما نجح فيه بعد نيله جائزة نوبل للسلام في السنة الأولى من حكمه رغم أنه لم يقدم شيئا بعد، هو نجاحه في تحويل أكبر قوة في العالم في عهده إلى أمة مثلية الجنس، وليس إلى أمة لا اعتبار فيها للجنس واللون في تحديد مكانتك في المجتمع كما كان يحلم بذلك الأسود الآخر البارز في التاريخ الأمريكي "مارتن لوثر كينغ".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة