فى اعتقادى أن استدعاء تلك المصطلحات من الثقافة الغربية لوصف ما يجرى هنا ليس دقيقا، فالمصريون لم يظهروا يوما درجة من درجات التعصب الوطنى
أمام مقال مطول فى صحيفة الجارديان البريطانية نشر أمس الأول السبت من كتاب بعنوان «المصريون: قصة راديكالية» للصحفى الشاب جاك شانكر عند عبارة أن مصر تنتج اليوم «نسخة سامة من القومية الشوفينية» وهو يصف هنا حالة الوطنية المصرية التى ظهرت بعد الاطاحة بجماعة الاخوان من الحكم بعد الثورة الشعبية في30 يونيو التى تبدو للبعض فى الخارج متجاوزة وضارة بالمجتمع القائم على التعددية وتمثيل كل الأصوات وهو خلط موجود فى كثير من الكتابات الغربية ولا ينصف اللحظة التى خرج فيها المصريون لاستعادة دولتهم من تنظيم غامض شكل أكبر تهديد للدولة المصرية على مدى تاريخها. والشيفونية هو مصطلح من أصول فرنسية يرمز الى التعصب القومى المتطرف، وينسب الى الجندى الفرنسى نيقولا شوفان الذى خاض حروبا تحت قيادة نابليون بونابرت، وكان مثالا فى تعصبه لوطنه وبمرور الوقت ترسخ المصطلح ليعنى التعصب والعداء للأجانب والتزمت القومى ونفى الآخر.
والسؤال الواجب هنا هو: لماذا ينظر كتاب غربيون الى الحالة المصرية من منظور ضيق يعتبر ما حدث من استعادة الدولة على يد الشعب وبدعم من قواته المسلحة باعتباره تطورا سلبيا ولا يعتد بحجم المخاطر الأمنية ولا يعير تيار الوطنية المصرية اهتماما كافيا؟
فى اعتقادى أن استدعاء تلك المصطلحات من الثقافة الغربية لوصف ما يجرى هنا ليس دقيقا، فالمصريون لم يظهروا يوما درجة من درجات التعصب الوطنى السام على غرار ما جرى فى أوروبا فى الحربين العالميتين ولم تخض الأمة المصرية حروبا عدائية ضد دول أخرى بغرض التوسع أو السيطرة على موارد مجتمعات أخرى ولم يكن العداء للأجانب حاضرا فى العقل المصرى بالصورة التى تستدعى يوماً تلك الحالة السلبية من مجتمعات أخرى وحتى عندما شعرت بالتهديد بعد العدوان الثلاثى وبعد حرب 1967 لم توجه الخصومة السياسية للانعزال عن العالم وبالنسبة لحالة نفى الاخر فهى غير قابلة للتطبيق فى حالتنا لأن ما حدث فى الثلاثين من يونيو كان خيار الأغلبية فى مواجهة تيار سياسى يتمسح بالدين ولم يكن توجها عرقيا أو مذهبيا ضد طائفة من الشعب بل كان سبيلا لاعادة اللحٌمة للمجتمع ودفاعا عن وجوده فى مواجهة تيار ينكر الديمقراطية فى لب قناعاته. فى أوقات المد الوطنى الفياض وعند الانتصار لقيمة بعينها تتفجر طاقات الوطنية لدى قطاعات عريضة من الجماهير كانت تستشعر الخطر وهو أمر قائم اليوم لا يمكن المجادلة بشأنه ولا يمكن نكرانه.
نعود الى السؤال السابق، فالمنظور السلبى فى الكتابات الغربية ربما يكون عائدا بالأساس الى أحكام جزئية على الحالة المصرية تتمثل أمامها أداء اعلامى باهت ً غير منضبط فى التعبير عن دعم الدولة فى توجهاتها ومن أفراد يحتكرون لأنفسهم الحديث باسم الثورة الشعبية ويصدرون أحكاما مبالغ فيها على خصومهم السياسيين بينما لو تركت الأمور للمؤسسات المنوط بها انجاز العدالة وتقديم المجرمين فى حق الشعب الى المحاكمات الناجزة لكانت تلك هى الوسيلة الأفضل للتعامل مع ملفات عديدة. المزايدة باسم الوطن والوطنية وعدم ضبط الأداء الاعلامى أو لغة النخب السياسية تعوق التقدم الحقيقى نحو المستقبل لانها تبقى المجتمع حبيس حالة لو طالت تخصم من رصيد الحاضر والمستقبل وتعطى القلة المدبرة للمكائد والفخاخ فرصة للتمادى والتعريض بمصالح الأمة. مازال الحوار حول جوهر ما حدث فى مصر قبل عامين ونصف العام يدور فى «مونولوج» داخلى لم يصل الى العالم الخارجى بالطريقة التى نرضاها نتيجة حالة عراك غير مفهومة فى أوساط الأغلبية التى تساند التغيير ومع غياب النضج السياسى الكافى لبناء حوار ايجابى ضاعت مسألة شرح مقاصد التغيير فى الخارج ولم يجد كثير من الباحثين الأجانب سوى روايات الأقلية التى لفظها الشعب وهى مفارقة يتعين الالتفات اليها اليوم لو أردنا تصحيح الصورة واختصار الوقت والعودة الى العمل الجاد لبناء دولة حديثة وهناك تجارب عالمية كثيرة مرت خلالها شعوب بتجارب مؤلمة، لا تمثل الحالة المصرية جزءا يسيرا مما مرت به، لكنها حددت الأهداف المرحلية وأطلقت الطاقات بعد أن تجاوزت عن مرارة الماضى القريب.
---
غاية القول إن ما يراه الأخرون تيارا من الوطنية الشيفونية يتعين أن يرد عليه المجتمع المصرى بقدرة أعلى على الارتفاع فوق الصغائر وعدم معاملة القلة التى لفظها الناس على قدر مساوى للدولة وكيانها دون أن نهدر حق المجتمع فى الأمن والاستقرار وهى مهمة النخب الثقافية والفكرية والاعلامية لو أرادت..
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة