تشغلنى كثيرا مشاعر القلق التى انتابت أجهزة الأمن فى مصر خلال الأسابيع الماضية تحسبا لما قد يجرى فى العيد الخامس لثورة يناير
تشغلنى كثيرا مشاعر القلق التى انتابت أجهزة الأمن فى مصر خلال الأسابيع الماضية تحسبا لما قد يجرى فى العيد الخامس لثورة يناير، وكانت مظاهر القلق قد تضاعفت الأسبوع الماضى وأوردتها تقارير عديدة عن قيام رجال الأمن بالتفتيش على الشقق التى تم تأجيرها حديثا فى وسط العاصمة وسؤال قاطنيها عن مواقفهم السياسية، وذلك بعد إغلاق دار للنشر وموقع يستخدم لأغراض فنية متعددة، ويقال فى الصحف أن تلك هى الأماكن التى استخدمت فى الإعداد لثورة يناير منذ خمسة أعوام.
ولاشك أن هذا الاهتمام المفرط من جانب أجهزة الأمن بما يمكن أن يحدث فى هذا اليوم يلقى عليها أعباء فادحة بل وامتد إلى أجهزة أخرى فى الدولة تحسب حسابا لهذا اليوم، وذلك على العكس من عدم اكتراث كثيرين من المواطنين لهذا القلق، ليس لأنهم لا يعيرون اهتماما لمظاهر اضطراب محتملة، ولكن لأنهم لا يتوقعون أصلا أن يمر هذا اليوم مختلفا عن غيره من الأيام الماضية.
قد تكون هناك بعض الحوادث الإرهابية مما عهدناه أخيرا فى سيناء وفى بعض أحياء العاصمة، وقد تخرج مظاهرات محدودة من جانب أنصار الإخوان فى بعض مدن الأقاليم، ولكن لا يشعر الكثيرون من المواطنين ممن ألقاهم وممن ألاحظهم أن أمرا غير عادى يمكن أن يحدث فى هذا اليوم.
وفضلا على ذلك فهم يرون أن ما تحتاجه مصر الآن هو مزيد من الاستقرار والتفرغ لمهام علاج قضايا الفقر والبطالة وتردى الخدمات، والانصراف للعمل وليس إضاعة الوقت فى مظاهرات وإضرابات لن ينجم عنها تحسين أوضاع البلاد.
ولكن نظرا لهذا العبء الهائل الذى يقع على عاتق أجهزة الأمن، والتكلفة الهائلة لهذه التعبئة فى صفوف الشرطة، وعودة القوات المسلحة للمشاركة فى مهمة تأمين العاصمة ومرافق أخرى فى الدولة، وكذلك الوقت الضائع فى اجتماعات أجهزة عليا تحسب لهذا اليوم حسابه، والذى دعا البعض أن يكون بداية ثورة جديدة، فكرت أنه من واجب من يعرف شيئا عن أسباب الثورات أن يبادر ويطرح رؤية مغايرة لكيفية المواجهة الناجحة لمثل هذه الاحتمالات التى تشغل قيادات الدولة فى مصر. وربما يكون الأفضل بدلا من التعويل على أجهزة الأمن لمقاومة احتجاجات جماهيرية واسعة محتملة أو متصورة، أن يتوجه جهد الدولة لعلاج الأسباب التى قد تؤدى إلى اتساع نطاق احتجاجات قد تحدث، ووأد ما تعتبره أجهزة الدولة «فتنة» فى مهدها.
***
طبعا لا يملك أحد، بما فى ذلك علماء السياسة وصفة ناجحة يقدمونها للحكام تجعلهم يوفقون فى تفادى الثورات على حكمهم، ولكنهم يتفقون على أن هناك سياسات وممارسات تبعد من احتمال وقوع الثورة. ربما لم يسمع كثيرون منهم ما قاله ذلك الأعرابى لعمر بن الخطاب ثانى الخلفاء الراشدين عندما رآه نائما هانئا، فعلق على ذلك: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر».
والخلاصة أن أمن الحاكم والمحكومين إنما يتحقق بالعدل. فما هى مواصفات العدل التى إن تحققت فى مصر تضاءلت احتمالات ثورة جديدة فيها؟
ربما لا يتسع هذا المقال لذكر كل هذه المواصفات ولكن سيقتصر على تحديد أهمها.
طبعا العدل له بعده الاقتصادى، ولكن غياب العدل الاقتصادى لا يؤدى بالضرورة إلى الثورة. العدل الاقتصادى غائب فى كل دول العالم إذا كان المقصود بذلك أن يكون دخل المواطن مساويا لمقدار ما يبذله من جهد، ومع ذلك احتمالات الثورة ليست قائمة فى العديد من هذه الدول، لأن أغلبية البشر هم من المحافظين فى فكرهم وسلوكهم، ولا يريدون تحمل مخاطر الثورة على أوضاع قد يرونها ظالمة، ولكنهم يثورون عندما يرون أن غياب العدل يقترن باضطرارهم إلى الاستسلام لمعيشة غير كريمة، وأكثر من يشعرون بالسخط على هذه المعيشة غير الكريمة هم المتعلمون الذين توقعوا أن ينالوا العيش الكريم بفضل تعليمهم.
أما غير المتعلمين فربما يعتقدون أن فقرهم وبؤسهم هو واحد من قوانين الوجود، وعليهم تقبله لأنه لا يمكن لهم تغييره. لقد كان الشعار الأول لثورة يناير هو «عيش» ومعنى ذلك أن يحصل المواطن ومن خلال العمل على ما يؤمن له حياة كريمة، وكانت الطليعة الأولى للثورة هى من الشباب المتعلم. وتشير إحصائيات الجهاز القومى للتعبئة والإحصاء إلى استمرار معدلات البطالة المرتفعة بين الشباب المتعلم، وإلى أن الفقر يضرب بأطنابه أكثر من ربع السكان.
هذا هو ناقوس الخطر الأول الذى يجب أن تضعه حكوماتنا موضع الاعتبار، ولا يكفى لتبديد مشاعر اليأس من تغيير هذه الأوضاع مشروعات لا تفيد إلا قلة من الشباب سواء فى البرنامج الذى أعلن عنه منذ أسابيع أو من يملكون حدا أدنى من رأس المال يمكنهم من الدخول فى مشاريع صغيرة أو استصلاح أراضٍ فى الصحراء.
البطء فى التصدى لقضايا البطالة بين المتعلمين والفقر بين المواطنين عموما له نتيجته التى عرفها منذ خمس سنوات نظام مبارك.
طبعا سوف يستغرق علاج البطالة والفقر زمنا، ولكن مما يشكك فى نجاح مثل هذه الجهود أن يكون أسلوبها فى ذلك هو نفس أسلوب نظام مبارك، وهو ما تشير كثير من الدلائل إلى استمراره فيما يتبع الآن من سياسات.
***
ولكن أسباب الثورات لا تنحصر فقط فى البطالة والفقر وإن كانا من أهم أسبابها يزداد سخط المواطنين على الأوضاع القائمة فى بلادهم عندما يرون أنه لا توجد أى فرصة للتغيير السلمى للسياسات أو للأشخاص الحاكمين.
لم يعرف تاريخ الإنسانية على امتداده حاكما عبقريا يعرف الحلول الناجعة لكل مشاكل بلاده.
لم يخل أى حاكم مهما كانت شعبيته من النقد، وحتى قادة الثورات الشعبية الكبرى وأصحاب الانتصارات الوطنية بل والدولية العظيمة تعرضوا للنقد ودفع كثيرين منهم ثمن أخطاء كبرى كذلك.
كان هذا هو حال ماوتسى تونج فى الصين ولينين فى روسيا وونستون تشرشل فى بريطانيا وديجول فى فرنسا.
ولذلك فإن تركيز السلطات فى يد فرد واحد ومعاندته فى مواصلة سياسات لم يستشر فيها أصحاب الخبرة فى بلده هو ما يقتل الأمل فى إمكان تغيير هذه السياسات، وترديد الدعاوى بضرورة بقائه فى السلطة خلافا لقواعد دستورية وقانونية يعزز الشكوك فى إمكانية التغيير السلمى لسياسات خاطئة أو استبدال أشخاص الحكام. ولاشك أن طول ممارسة السلطة يؤثر سلبا على الكفاءة فى إدارتها.
لو كان مبارك اكتفى بمدتين فى حكم مصر لكان يكتسب لنفسه ذكرى طيبة فى التاريخ ولدى شعبه، وهو يدفع الآن ثمن إصراره على البقاء على رأس البلاد خمس مدد رئاسية وثلاثة عقود من الزمن.
والقائد الحكيم هو الذى يغادر موقع السلطة وشعبه راض عنه ولا يمل رؤيته.
لقد فرض قادة حزب المحافظين على مارجريت تاتشر أن تستقيل لأن البريطانيين سئموا من حكمها على الرغم من أن سنواتها الأخيرة لم تشهد تراجعا اقتصاديا أو تدهورا فى أوضاع بريطانيا الدولية.
طبعا من السهل على الحاكم فى مثل بلادنا أن يتصور أن مواطنى بلده يريدون أن يستمر فى السلطة إلى الأبد، خصوصا إذا كان لا يسمع إلا صوت أجهزته التى تزين له البقاء بدعوى أنه «محبوب الجماهير»، وخصوصا عندما لا يرى من هذه الجماهير إلا من جرى اختيارهم وانتقاؤهم وتلقينهم التعليمات بألا يقولوا له إلا ما يحب أن يسمعه.
لقد كان آخر تصريحات القذافى لمراسل هيئة الإذاعة البريطانية قبل نهايته المأساوية هو تعجبه من القول أن الليبيين يثورون ضده قائلا: «لماذا يثورون؟ إنهم يحبوننى«!!. ولذلك فخير معين للحاكم حتى يعرف شعور المواطنين إزاءه هو أولا أن يؤمنهم على أشخاصهم من الخوف، وأن يحترم ثانيا حقوقهم فى التعبير والتنظيم.
المواطنون الأحرار سوف يقولون له أين أصاب وأين أخطأ، وسوف يدرك من خلال المعرفة الصحيحة باتجاهات الرأى العام فى بلاده وفى إطار قواعدها الدستورية متى يكون من المناسب له أن يغادر سدة الحكم.
***
وأخيرا، قد لا يثق الحاكم فى كل هذه التحليلات لأسباب الثورات، وخصوصا عندما تأتى من أساتذة الجامعات الذين ينفقون وقتهم فى قراءة الكتب وكتابة الأبحاث ويراهم منفصلين عن الواقع.
من يعرف عن أسباب الثورات أكثر من دارسيها؟
إنهم الثوار، ولذلك فالنصيحة الأخيرة للحاكم الذى يريد تجنب ثورة شعبه ضده أن يسأل من قادوا الثورة كيف يفعل.
ولذلك قد يكون من المناسب أن يجد الرئيس السيسى جوابا على هذا السؤال لدى هؤلاء الذين ارتبطت أسماؤهم بثورة يناير، وبعضهم فى السجن، وآخرون فى منفى خارج البلاد. سوف يخلصون له النصح إن هو قرر أن يخرج من سجن منهم وأن يرحب بمن اضطر إلى مغادرة الوطن وذلك دون أن ينخرط أى منهم فى أعمال عنف أو حتى فى الدعوة له.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة