أجدير بنا أن نهرب من التاريخ الذى قال عنه «فوكوياما» أنه انتهى ؟ ، أم أننا نتوارى تقية خلف أستار واقعية؟
يما مويل الهوي، يما مويليا .. طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا ..
(1) ليست هناك - كالعادة - خطة محددة لما أريد أن أكتب.. كنت أتابع بعض لقطات إخبارية من حاضرة الدنيا وكعبة الطامحين إلى ملذاتها وسطوتها : «واشنجطن»، طيب الله ثراها وبل أروقة بيتها الأبيض الطاهر المعمور.. تذكرت بعض الحوارات فى أمسيات لا تنسى فى تلك المدينة، أدركت أن الزمن يوغل فى التلاشى خلف جبال وتلال من الأحداث المتراكمة .
أجدير بنا أن نهرب من التاريخ الذى قال عنه «فوكوياما» أنه انتهى ؟ ، أم أننا نتوارى تقية خلف أستار واقعية؟، أم أن الخلاص يتمثل فى إنكار المشهود وتمثل الحلم؟.. أين الموقع فى تلك التضاريس المختلة ، إن أنت تمسكت بعقلك هويت، وإن تخليت عنه انتهيت؟!!..
(2)لا جرم أن الإنسان هو وريث خطاياه وأفكاره ، ولكن المأساة أن يرث خطايا وأفكار الآخرين، ويورثها لأجيال قادمة ، وكلما تم الإيغال فى المسير، ازدادت ورطة التيه، وأطبقت فيافى الضياع بغير شفقة .
هل أصبحت الكتابة نوعاً من العقاقير المهدئة؟، أما أنها بمثابة شهادات على عصر يحرص الكتاب على أن يخلفوها لأجيال قادمة قد تقرأ، وربما فهمت أو فسرت الأحاجى، ربما التمست عذراً، أو.. ربما أخذت منها بقبس..
(3)
لم يصدق أبناء القبيلة صرخة «زرقاء اليمامة»، لقد كانت «مريضة» ببعد النظر، فاتهمها قصار النظر بالخبل والجنون، وقال «موسي»: «إنى آنست ناراً».. لكنهم قالوا له «اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون».. ومع ذلك فقد تمسكوا بوعد هذا الرب: «بل يكون إسرائيل اسمك، ولك ولنسلك من بعدك ، اهب هذه الأرض من نهر النيل إلى الفرات»..
قال «كارتر» للرئيس السادات: «اعتمد عليك اعتماداً كاملاً فى التوصل إلى اتفاق».. وأصدقه السادات الوعد، ولكن ـ كارتر ـ فى مذكراته ـ حرص أن يوضح أنه كان يتفاوض مع الرئيس السادات فى طرف، وشعب إسرائيل فى الطرف الآخر ..
فى أى كتاب من كتب أنبياء إسرائيل سوف يدرج اسم هنرى كيسنجر؟.. لا شك أن مناحم بيجين سوف يحتل مكانة بارزة، وكذلك بعض أولياء السياسة الصالحين الطيبين فى الجانب العربى.. طوبى لمن ساهم فى حل عقدة «الماسادا»، وألف طوبى لمن غسل جرائم النازية تجاه أبناء العمومة خاصة، ومليون طوبة إلى رأس كل من ساهم فى صنع سياسة الحمام ( أن تصر على أنك حمامة فى زمن الصقور )..
(4)
ذكر لى دبلوماسى خليجى أن شخصية رفيعة من الأسرة المالكة فى بلاده روى لمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية قصة عن الراعى الذى كان يعانى من ذئب يأكل أحد أغنامه كل أسبوع، فنصحوه باقتناء عشرين كلباً لحماية الغنم، إلا أنه أكتشف أنه يحتاج لإطعام تلك الكلاب بثلاث من غنمه يومياً ، فوجد الراعى أنه من الأفضل أن يتفاهم مع الذئب!!..
وكان الدبلوماسى يحاول تبرير تطور علاقات بلاده مع إيران رغم التحفظات الأمريكية.. وقد علقت قائلاً له إنه إذا صحت هذه الرواية فإن ما يحدث بالفعل يضيف لتلك القصة إصرار الكلاب على حراسة الغنم وأكلهم فى نفس الوقت!!، مع حرص شديد على حياة الذئب لأنه المبرر الوحيد لاستمرارهم فى مهمة الحراسة ..
(5)
لقد كانت زيارة القدس عام 1977 تمهيداً ضرورياً لملامح الصفقة، فالمخطط الإسرائيلى والأمريكى أدركا معاً أو منفردين استحالة تمرير الصفقة فى حيز عربى جمعته أحداث أكتوبر 1973 ووحدته بشكل غير مسبوق فى تاريخه المعاصر، كان هناك حرص على تفكيك هذا الموقف وبالتدريج، حتى ولو أدى الأمر لتقديم تنازلات جوهرية تكون كافية لإدارة رأس بعض الأطراف وجذبها بعيداً عن الموقف الموحد، وتمتلئ الأدبيات التى كتبت عن تلك الفترة بلقاءات فى عواصم عربية عديدة ومكاتبات ووعود لكل الأطراف تقريباً بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية .
لذلك لم يكن كامب ديفيد إعجازاً فى ذاته، أو تفاوضاً بالمعنى الفنى الدقيق، وإنما مساومة حول بضائع جاهزة للتسليم وأثمان موجودة فوق المائدة، وكل ما هو أكثر من ذلك لم يكن سوى مجرد تفاصيل شكلية .
(6)
إن كعكة الضفة الغربية كانت ومنذ البداية نصب عين المفاوض الإسرائيلي، فى حين كانت باقى الأطراف ترتب لمصالحها الخاصة، لذلك وبمجرد هبوب رياح الانتفاضة عام 1987، سارع المفاوض الإسرائيلى فى البحث لإيجاد متنفس سياسى لأول ثورة شعبية فلسطينية مؤثرة منذ الاحتلال، وبعد أن تبين له فشل كل الحلول العسكرية والأمنية ، لذلك كان دخول منظمة التحرير الفلسطينية إلى غزة وأريحا انتصاراً إسرائيلياً بقدر ما كان إنجازاً فلسطينياً، لقد أنكسرت موجة الانتفاضة، وأصبحت المنظمة بكوادرها الموجودة على الأرض كفيلة بإخضاع الثورة تحت مسميات كثيرة، وبأساليب لم تتبعها قوات الاحتلال الإسرائيلية ولو اتبعتها كانت تثير انتقاداً عالمياً .
لقدأرادت إسرائيل أن تكون قوات الأمن الفلسطينية، قوة مضافة لأمن إسرائيل، بل وأصبح ذلك الأمن ورقة من أوراق التفاوض حتى ولو كان أمن قوات الإحتلال والمستوطنات على أرض محتلة، وهو وضع ليس له مثيل فى التاريخ، فلم يحدث أن طلبت قوات احتلال من الوطنيين أن يتولوا بأنفسهم مطاردة رجال مقاومة الاحتلال كشرط لإنهاء الاحتلال!!..
(7)
يا مصر وانتى الحبيبة وانتى اغترابى وشقايا.. إنتى الجراح الرهيبة وانتى اللى عندك دوايا.. علمنى حبك عبارة سهلة وبسيطة وعفية.. شرط المحبة الجسارة شرع القلوب الوفية ..
يما مويل الهوي، يما مويليا.. طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا..
(أحمد فؤاد نجم)
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة