الشريف الإدريسي من العلماء الذين أسهموا في تطور المعارف الإنسانية في مجال الجغرافيا وعلم الخرائط في أواخر العصور الوسطى
الشريف الإدريسي من العلماء الذين أسهموا في تطور المعارف الإنسانية في مجال الجغرافيا وعلم الخرائط في أواخر العصور الوسطى، فنجح في الانتقال بهما من مجال الطرائف والحكايات إلى مجال المعرفة العلمية.
ولد أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحمودي الحسني المعروف باسم الإدريسي في سبتة بمراكش سنة 493هـ المقابلة لسنة 1100م، واشتهر باسم الشريف الإدريسي لأن عائلته تنتسب إلى الأشراف الحسنيين، وجده الأعلى إدريس الأول مؤسس دولة الأدارسة بمراكش سنة 172 هجرية، وجده السادس حمود بن ميمون الذي نسبه ابن خلدون إليه هو مؤسس الدولة الحمودية في جنوبي الأندلس سنة 407 هجرية، وقد انتقل الإدريسي في صباه إلى قرطبة في الأندلس حيث درس هناك، وتنوعت اهتماماته بين الأدب والعلم، فكان شاعرًا وطبيبًا، إلا أن إنجازه الأكبر كان في مجال الجغرافيا والرحلات، من خلال الكرة السماوية التي صنعها من الفضة، والخريطة المدورة التي رسمها للعالم المعروف في وقته، والتي نقل فيها الجغرافية من محصلة للروايات الخيالية إلى مجال معرفي يخضع لمنهج علمي يقوم على الملاحظة والرصد، في حدود إمكانيات عصره، كذلك فإن كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" يعد من الأعمال الجغرافية المهمة في التراث الجغرافي العربي، وتوفي الشريف الإدريسي سنة 560هـ أو 561 هـ، على الأرجح.
يقول عنه العالم العراقي الدكتور أحمد سوسة الذي ألف أحد أهم الكتب العربية عن الإدريسي في سبعينيات القرن الماضي: "بعد فتور خيم على الجغرافيا في المشرق في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجري برزت جغرافيا الإدريسي في منتصف القرن السادس الهجري، وهي تعد نقطة تحول في النشاط الجغرافي والكارتوغرافي في العالم، إذ انتقلت حركة الدراسات الجغرافية والكارتوغرافية من المشرق العربي إلى المغرب العربي على ساحل البحر المتوسط، ذلك ما جعل بعض الباحثين يطلقون على فترة الانتقال هذه بـ "عصر الإدريسي" باعتباره يمثل جغرافيي المغرب...
عصر الإدريسي يُمَثّل اللبنة الأولى في التقاء الغرب بالشرق من حيث تطور العلم الجغرافي والكارتوغرافي في العالم، كما أنه يمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ هذا العلم" كما أنه "طور أطلس الإسلام إلى أطلس العالم، فهو أول جغرافي عربي يسمو إلى مفهوم عالمي للعلم الجغرافي، إذ جمع معلومات جغرافية مهمة عن مناطق أوروبا المسيحية".
لقد جمع الإدريسي بين المعرفة بتراث السابقين عليه من الجغرافيين من ناحية وجمع الروايات من معاصريه، والخبرة العملية من خلال الترحال والمشاهدة، وخرج من هذا الخليط بإسهامه الجغرافي المهم.
فقد اتصل الإدريسي بالإنتاج الفكري للمدارس الجغرافية الأربعة التي سادت في ظل الحضارة العربية الإسلامية؛ مدرسة العصر العباسي الأول المتأثرة بالمدرستين الفارسية والهندية، والمدرسة العربية التي يعد الخوارزمي مؤسسها، والمدرسة الإقليمية الوصفية التي انتشرت بين الجغرافيين المسلمين في القرن الرابع الهجري، والمدرسة الأندلسية المغربية، كما تأثر الإدريسي بجغرافيا بطليموس التي كانت تشكل مرجعية مهمة لمعظم جغرافيي العالم في ذلك الزمان.
وفي الوقت نفسه قام الإدريسي بعدد من الرحلات الكشفية ليلبي ولعه بالمعرفة الجغرافية، بدأ رحلاته وهو بعد في السادسة عشرة من عمره، فتجول في شبه الجزيرة الأيبيرية، وزار سواحل فرنسا وإنجلترا على المحيط الأطلسي، واتجه غربًا إلى جزر الكناري وجزيرة ماديرا، لكن صعوبة الترحال عبر المحيط أوقفته عند هذا الحد فاتجه جنوبًا وشرقًا حيث ارتحل في الشمال الأفريقي حتى مصر، ثم اتجه إلى بلاد الشام ووصل إلى آسيا الصغرى، وزار القسطنطينية عاصمة البيزنطيين، وتجول في بلاد اليونان.
وقد زار الإدريسي صقلية مرتين والتقى بملكها النورماندي روجر الثاني الذي أقنعه بالإقامة بمملكته، وهناك من يرى أن شهرة الإدريسي كرحالة وجغرافي نابغ في عصره دفعت الملك روجر الثاني الذي كان له ولع بالعلم إلى دعوته ليلتحق ببلاطه في بالرموا، لكن الرأي الراجح أن اللقاء جاء مصادفة خلال زيارات الإدريسي لصقلية التي كان بها بقايا لفرع من الأسرة الحمودية، أي كانت الرواية الحقيقية، فقد توطدت العلاقة بين الرجلين، وطلب روجر الثاني من الإدريسي أن يضع له كتابًا في الجغرافيا.
وتحدث الإدريسي عن أسباب المهمة التي كلفه بها روجر الثاني في كتابه الأشهر "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وهي المهمة التي قضى 18 عامًا كاملة في تنفيذها؛ فقال: "لما اتسعت أعمال مملكته، وتزايدت همم أهل دولته وأطاعته البلاد الرومية، ودخل أهلها تحت طاعته وسلطانه، أحب أن يعرف كيفية بلاده حقيقة، ويقتلها يقينا وخبرة، ويعلم حدودها وممالكها برًا وبحرًا".
وقد مر عمل الإدريسي بثلاثة مراحل؛ المرحلة الأولى إعداد لوح الترسيم الذي اتخذه الإدريسي أساسًا لتثبيت المواضع عليه وفقًا لخطوط الطول والعرض، وقد ابتكر "لوح الترسيم" لكي يتحرى أكبر قدر من الدقة، واللوح عبارة عن مسطح معدني ضخم قسمه إلى سبعة أقاليم تضم كل الأماكن المأهولة في العالم، وكلما كشف عن جزء، أضاف تفاصيله إلي هذا اللوح.
وفي المرحلة الثانية صنع كرة فضية للعالم، حيث حول لوح الترسيم إلى خريطة موقعه على شكل كروي على الأرجح، ثم صنع الشريف الإدريسي كرته السماوية التي حدد عليها مواقع الأفلاك، وكانت خريطة هذه دقيقة خاصة في أطوال البلاد وعرضها، ومراعاة الأبعاد الفلكية للكوكب حسب معارف ذلك العصر، لكن لم يصل إلينا منها إلا الحكايات عنها؛ فقد تحطمت حين اقتحم بعض الثوار قصر روجر الثاني" أثناء عهد خليفته وليام الأول.
وعلى أساس لوح الترسيم وخريطته المدورة بدأ الإدريسي المرحلة الثالثة من عمله بتأليف كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، الذي جمع فيه كل ما وصل إليه من معارف جغرافية، وكل ذلك برعاية من الملك روجر الثاني، لدرجة أن الكتاب عرف في الغرب باسم "كتاب روجر"، أو "الكتاب الروجري"، وقد شاعت مخطوطة الإدريسي في أوروبا سنة 1592، وترجمت بعد ذلك عدة مرات إلى لغات أوروبية مختلفة في ترجمات غير كاملة.
وكان الإدريسي يميز في كتابته بين ما يسمعه من غيره وبين ما يراه عيانًا؛ فهو يصف مدن الأندلس ومصر وغيرها من بلاد رآها في ترحاله ومغامراته، وينقل عن الآخرين وصف ما لم يره من البلاد البعيدة التي لم يزرها، وتميزت كتابته بأسلوب أدبي رفيع نجح من خلاله في أن يقدم نصًا علميًا وممتعًا في الوقت ذاته.
ومن الطرائف التي ترتبط بما كتبه الإدريسي والتي ما زالت محل جدال لمئات السنين، عبارة كتبها الإدريسي، يقول فيها: "ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلي أين انتهاؤه... إلى أن لاحت لهم جزيرة، فنظروا فيها إلي عمارة وحرث، فقصدوا إليها ليروا ما فيها... رأوا رجالًا شقرًا زعرًا شعور رؤوسهم، وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب"، وبحر الظلمات هو الاسم القديم للمحيط الأطلنطي، وهم مجموعة من العرب يتحدث عنهم الإدريسي أنهم قد حاولوا عبور المحيط الأطلسي ليصلوا إلي أرض عجيبة، فهل يكون ذلك إشارة إلي اكتشاف المسلمين القارة الأمريكية قبل كريستوفر كولمبوس؟
ومن وصف الإدريسي للسكان يمكن أن نتصور أن هذه الرحلة ربما تكون قد وصلت إلى أيسلندة أو جزيرة من جزر بحر الشمال.
وعندما توفي روجر الثاني سنة 1154م / 549هـ، لم يغادر الشريف الإدريسي بالرموا فورًا، بل حاول أن يستمر في رعاية ويليام الأول الذي حكم صقلية بعد وفاة أبيه، وألف الإدريسي كتابًا ثانيًا أهداه للملك ويليام الأول يحمل عنوان: "روض الأنس ونزهة النفس"، لكن سرعان ما سادت الإضرابات في مملكة صقلية، وانتهت هذه الإضرابات بمذابح للمسلمين في صقلية، وهنا يختلف المؤرخون حول مصير الإدريسي فالبعض يرى أنه لقي حتفه في هذه المذبحة، بينما يعتقد آخرون أنه عاد إلى سبته ومات فيها، فالروايات عن حياته مضطربة وقليلة، وربما تكون حياة الإدريسي في بلاط روجر الثاني وابنه ويليام الأول في بالرموا في زمن الحروب الصليبية والصراع بين العالمين الإسلامي والمسيحي هي التي جعلت كتاب السير في العالم الإسلامي يغفلون ذكره رغم عظم مكانته وإسهامه الفذ في الجغرافية والخرائط، إلى جانب جهوده الأخرى في مجالات العلوم المختلفة فقد ألف "الأدوية المفردة" في الصيدلة، كما كتب سفره الهام "الجامع لصفات أشتات النبات".
لقد كان الإدريسي صاحب إسهام مهم في نقل المعرفة بين الشرق والغرب، وفي تطور الجغرافية وتحولها من حكايات للطرائف والعجائب والأساطير إلى علم يقوم على أسس منهجية، ويلخص المؤرخ الكبير الدكتور حسين مؤنس إسهام الإدريسي فيقول: "وربما لم يكن فيما أتى به الإدريسي شيء جديد لا نجده فيما تقدمه من الكتب، ولكن الجديد حقًا هنا هي النظرية السليمة إلى الجغرافيا كعلم قائم بذاته لا يختلط بالتاريخ ولا تمتزج مادته بالأساطير ولا تتعلق حقائقه بمسائل الفلك، والإدريسي هنا جغرافي موضوعي يذكر الحقائق كما تصورها واضحة مجردة ويضعها في أسلوب بسيط منطقي لا تكلف فيه ولا تظاهر بالعلم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة