علي الطائرة المتجهة إلي لندن كان سعد لبيب يفكر في المشوار الذي قطعه حتي هذا المقعد الذي يحمله إلي( بي بي سي)
(1) علي الطائرة المتجهة إلي لندن كان سعد لبيب يفكر في المشوار الذي قطعه حتي هذا المقعد الذي يحمله إلي( بي بي سي) لحضور دورة تدريبية علي فنون التليفزيون, محام ناجح يكتب مقالا و يرسله إلي بريد القراء في صحيفة( البلاغ), يفاجأ بنشره في افتتاحية الصفحة الأولي, يليه عرض بترك المحاماة و العمل كسكرتير تحرير, يليه عرض بترك الصحافة و التفرغ للعمل كمذيع, ثم نجاح يتوج بالتعيين مديرا للبرنامج الثاني, ثم اختياره ضمن اللجنة التي ستؤسس التليفزيون المصري.
لم يكن الهدف من السفر التدريب فقط, ولكن محاولة حل الخلاف بين أعضاء اللجنة التي أوكلت لها مهمة التأسيس, كانت اللجنة غير متناسقة, تضم صلاح عامر( أبو الهندسة الإذاعية) وأسماء من الإذاعة( مثل: تماضر توفيق و صلاح زكي) و من السينما( مثل: كمال أبو العلا و أحمد كامل مرسي) ومن المسرح( مثل: كامل يوسف ونور الدمرداش), كان كل فريق يعتبر التليفزيون إمتدادا للفن الذي يعرفه, و يريد أن يفرض الشكل الذي أختبره من قبل, كانت وقتها إدارة المهمة مشاركة بين( عبدالحميد يونس), و(بابا شارو), وظل الاختلاف قائما إلي أن تولي سعد لبيب منصب سكرتير عام التليفزيون.
كان عبد الناصر يتابع بنفسه سرعة افتتاحه قبل نهاية1960, لدرجة أنه عندما تأخرت المراكب التي ستنقل المعدات اللازمة من الخارج أصدر أوامره للسلاح الجوي بنقلها, كان ناصر يحلم بإطلاق التليفزيون في نفس الوقت الذي ستصدر فيه قوانين يوليو الاشتراكية, كان يؤمن بأهمية دور التليفزيون في إقناع الناس بالنظام الجديد, لذلك كانت أول صورة تظهر علي التليفزيون المصري هي صورة ناصر وهو يخطب في مجلس الأمة ليلة21 يوليو.1960
(2)
كانت الإمكانيات محدودة, كانت نشرة الأخبار مثلا تذيع الخبر فيما بين24 إلي48 ساعة من وقوعه, وكان عدد العاملين في مختلف القطاعات محدودا, و ثمة تشويش بخصوص ما يجب أن يقدمه التليفزيون, قاتل لبيب حتي ينتصر علي الروتين الذي كان يعطل إجراءات دخول المعدات اللازمة, وأسس فرقا مسرحية و موسيقية وفنون شعبية تابعة للتليفزيون, و فتح الباب أمام العناصر الشابة بجرأة شديدة يدربهم و يفسح لهم مكانا أمام الكاميرا, حتي عندما اشتكي سكان القري و المدن البعيدة وبعض الأحياء الفقيرة من صعوبة امتلاك جهاز تليفزيون, وأدرك لبيب أن ما يقوم به لا يصل إلي قطاع عريض من الناس,قام بتطبيق فكرة( نوادي المشاهدة الجماعية), تم وضع جهاز تليفزيون في كل جمعية زراعية و في مناطق التجمعات المشابهة, و عين لبيب موظفا يتابع في كل تجمع ردود الفعل و يقيس مستوي الاهتمام و التأثير, ثم فتح الباب أمام تقديم البرامج الريفية لتختلط المتعة بالفائدة.
لكن ما الذي كان يذيعه التليفزيون بخلاف ذلك؟
(3)
بدأ البث بقناة واحدة و لمدة أربع ساعات فقط, لكن الانطلاقة كانت قوية, كان الشيخ مصطفي إسماعيل هو أول مقريء يظهر علي الهواء, و كان أوبريت( وطني الأكبر) هو أول عرض كبير ينتجه التليفزيون و يقدمه في أول يوم, ووضع المخرج السينمائي كمال حسين لمسته بأن أخرج أول حلقات( نادي الشباب) تقديم أماني ناشد, ثم قدمت فرقة رضا الرقصات الشعبية, وقبل أن ينتصف الليل تم تقديم أول نشرة أخبار في تاريخ التليفزيون, استمرت ثلاثين دقيقة, و تبادل قراءة الأخبار فيها عدة أسماء أبرزها( همت مصطفي) التي أصبحت فيما بعد أول سيدة تعين كبيرة للمذيعين في التليفزيون المصري.
بعدها تم اختراع صيغة( المجلة), لتقديم كل ما يخص أمرا بعينه في برنامج واحد, فظهر( مجلة الأسبوع) يقدمه سعد لبيب, ومجلة( كل الفنون) يقدمه أنور المشري وكان يهتم بالنقد و التقييم, و( مجلة الأغاني) قدمته سعاد حسني إخراج روبير صايغ, و(مجلة العائلة) تقدمه ثريا حمدان, فبدأت المنافسة, ثم ظهرت الأفكار الجديدة علي يد وجوه جديدة سرعان ما أصبحت نجوما( سميرة الكيلاني, سلوي حجازي, ليلي رستم).
كان إيقاع النجاح سريعا, بعد فترة قصيرة تقرر مضاعفة ساعات الإرسال فأصبحت ثماني بدلا من أربع, ثم القرار بإطلاق القناة الثانية,و علي هامش تلك القرارات انتقلت الكاميرات إلي ملاعب كرة القدم ونقلت المباريات لأول مرة, في الوقت نفسه كانت هناك مباراة أخري من أجل العثور علي أفضل فكرة وشكل يظهر به علي الشاشة رموز مصر, فسهرت مصر تتونس بحوارات طه حسين و العقاد و الشرقاوي و غيرهم, ثم ظهرت تجارب تليفزيونية في بلاد عربية أخري و كان قوام برامجها الشرائط التي تحمل هذه الكنوز.
(4)
هل كان تليفزيون عبد الناصر؟
يقول لبيب إن ناصر كان قليل الظهور علي شاشة التليفزيون, وكانت تعليماته أن يتم تصوير المقابلات المهمة فقط, و حذف صورته من الافلام الإخبارية التي تعرض بالخارج, حتي لا يعطل نشر صورة مصر في الغرب الذين يكرهون ناصر, كان يريد أن يقطع الطريق علي من يري مصر و عبد الناصر شيئا واحدا.
كان التليفزيون ابن الثورة فلم يكن بحاجة إلي رقابة أو توجيهات أو تعليمات, كان لبيب يدافع عن حرية برامجه التي كانت تغضب كثيرين من المسئولين, مثل برنامج أقوال الصحف الذي يقدمه حمدي قنديل المليء بالنقد العنيف لمؤسسات الدولة, كان لبيب يتلقي شكاوي المسئولين بكل الحب دون أن يغير هذا من الأمر شيئا.
إلي أن وقعت النكسة, و ظهرت مشكلة ما الذي يجب تقديمه للناس في تلك الفترة؟, لا مجال لأغنيات او تمثيليات,كان التركيز علي الاخبار وما حولها, و توجيه الناس, وإيجاد نغمة تجعل الناس لا تفقد تماسكها, كانت المهمة صعبة, و لم يعد هناك برنامج ثابت, فقد كان العمل يسير يوما بيوم حسب مستجدات الأحداث.
كان التليفزيون خير ظهير في هذة الفترة, حتي أصبح السادات رئيسا, فأصدر قرارا جمهوريا بعزل سعد لبيب, لم يستسلم الأخير و قاتل في ساحة القضاء حتي حصل علي حكم بعودته إلي منصبه, عاد و قدم استقالته في اليوم نفسه, ثم تفرغ للعمل مع اليونسكو لوضع لمسته علي الإذاعات و التليفزيونات الناشئة في عدة دول أخري.
(5)
عندما أنظر إلي التليفزيون فكأنني أنظر إلي شيء مخيف,ليس لصعوبة العمل فيه, ولكن لشدة تأثيره و امتلاكه لعقول الناس بحيث إنه يكاد يسلبهم إرادتهم, علمني التليفزيون الحذر في الاختيار, يجب ألا نغفل مسئولية المشاهد, فكلما كان أكثر وعيا قلت الأضرار و عظمت الفائدة.. سعد لبيب.
............................................................................
مصادر:( تحقيقات صحفية وحوارات: محمد الشافعي, د.صبحي شفيق, إبراهيم عبد العزيز).
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة