رواية كتيبة سوداء للاستاذ محمد المنسى واحدة من أجمل الرويات التى قرأتها هذا العام،فمحمد المنسى قنديل أصبح واحدا من أبرز الروائيين العرب
رواية كتيبة سوداء للاستاذ محمد المنسى واحدة من أجمل الرويات التى قرأتها هذا العام، ولا غرابة فى ذلك، فمحمد المنسى قنديل أصبح واحدا من أبرز الروائيين العرب بما كتبه من روايات بيع نفس بشرية 1987، وانكسار الروح 1988، وقمر على سمرقند 2005، ويوم غائم فى البر الغربى 2009، وأنا عشقت 2012 وآخيرا رواية «كتيبة سوداء» التى صدرت العام الماضى. ولم أستطع قراءتها إلا فى هذه الأيام.
والحق أننى أعجبت بها لما تنطوى عليه من أبعاد عديدة تضعها بجدارة فى أدب ما بعد الاستعمار، وهو الأدب الذى يتولى تعرية الاستعمار الاستيطانى القديم والكشف عن آلياته فى القمع والهيمنة، واستغلال الشعوب التى تنقض عليها براثنه.
أما كتيبة سوداء فهى رواية تاريخية تتتبع الأورطة المصرية السودانية التى ذهبت إلى المكسيك سنة 1863، دعما للأرشيدوق ماكسميليان الأول بواسطة ديليسبس الذى أقنع سعيد باشا بإرسال أورطة مصرية سودانية لكى تدعم ماكسميليان الأول الذى أراد له الإمبراطور نابليون الثالث أن يكون إمبراطورا مدعوما من فرنسا ضد الثورة الوطنية التى قامت ضده فى المكسيك.
وقد سافرت الأورطة سنة 1867 بعد أن فقدت 140 جنديا مات ستة وأربعون منهم بسبب المرض.
ويبدو أنه لا سبيل إلى فهم الرواية إلا بعد توضيح الخلفية التاريخية التى تنبنى عليها. فقد كانت المكسيك فى ذلك الوقت تشهد حركة إصلاح ديمقراطى كان من ثمارها دستور 1857، ولكن قامت ضدها حركة مضادة استعانت بفرنسا التى طلبت من أحد أفراد أسرة هابسبورج «ماكسميليان الأول» أن يكون إمبراطورا على المكسيك وشنت حربا تذرعت فيها إساءة حكومة المكسيك معاملة رعايا فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، وعدم تسديد ما عليها من ديون.
لكن الدافع الأساسى للحرب كان رغبة هذه الدول الاستعمارية فى إقامة حكومة موالية لها تحقق التوازن مع قوة الولايات المتحدة الصاعدة.
ولكن سرعان ما انسحبت بريطانيا وإسبانيا وتركتا فرنسا متورطة وحدها فى القتال، فأخذت فرنسا تبحث سعن شركاء، وسعى نابليون الثالث لدى خديو مصر سعيد باشا لإرسال قوات مصرية للمشاركة فى القتال، وذلك من منطق استعمارى معادٍ للأمانى الوطنية للشعوب المستعمرة، ومنها المكسيك التى كانت قد بدأت فيها انفجار حركة التحرر الوطنى بقيادة بينيتو خواريز.
وبالفعل حقق سعيد باشا رغبة فرنسا بنا على تدخل من ديليسبس صديقه، وأمر بجمع تجريدة مكونة من جنود سودانيين كانوا فى الأصل عبيدا ومجموعة من الجنود المصريين السود، وانطلقت الحملة فى مجاهل لا تعرفها، وعانت فى حرب خاضتها لا ناقة لمصر فيها ولا جمل.
وكانت المشكلة الأولى هى مشكلة التواصل بين الجنود المصريين والفرنسيين، ولكن قام بحل هذه المشكلة الجنود الجزائريون الذين جلبتهم فرنسا من الجزائر المستعمرة.
ومرت الحملة بالعديد من الصعاب، وكانت من أكبر تلك الصعاب سوء المناخ والأمراض. ولذلك فقدت الأورطة المصرية قائدها جبر الله محمد الذى توفى من جراء الحمى الصفراء وخلفه محمد ألماس، ومع ذلك فقد أبلى جنود الحملة بلاء حسنا فى القتال مع الجمهوريين وتميز جنودها بالشجاعة والبراعة فى الرماية، ولذلك أوكل إليها دعم المواقع المتقدمة وتولى أصعب المهام، وهى صد الغارات التى كانت تشن على قوافل المؤونة والذخيرة.
ومن الواضح أن القائد الفرنسى العام كان يتعمد وضع الجنود المصريين السودانيين فى المقدمة لكى يتحملوا العبء الأكبر فى القتال اتساقا مع المنطق الاستعمارى الذى يقوم على استغلال الشعوب المستعمرة لتحقيق فوائد الدول المستعمرة.
وهكذا دارت رحى الحرب بين الجيش الاستعمارى الذى أصبح أبناء الجزائر ومصر والسودان طرفا فيه ممثلين لمصالح استعمارية فى مواجهة حكومة جمهورية يقودها بينيتو خواريز الذى كان رجال الكنيسة الكاثوليكية لا يكفون عن الهجوم عليه لقيامه بإجراءات عنيفة وشاملة هدفت إلى تقليم أظافر الكنيسة وسلطاتها وثرواتها الهائلة.
وكانت الولايات المتحدة تعترف بحكومة بينيتو خواريز وتقف فى صفها، بينما كان رجال الطرف الثانى مدعومين برجال المال فى أوروبا وبالحكام والإمبراطوريات القديمة الاستعمارية التى كانت تحارب فى سبيل استغلال ثروات الشعوب المقهورة، ولم يكن من العسير إثارة اهتمام نابليون الثالث بالمغامرة فى المكسيك طمعا فى المغانم.
أسهم رجال الدين فى المكسيك المهاجرون إلى باريس فى إقناع الإمبراطورة أوينى(وهى من أصل إسبانى) لتقنع زوجها الإمبراطور بالمساعدة فى إنشاء مملكة وكنيسة متحدة مركزية فى المكسيك، وإنشاء إمبراطورية كاثوليكية تحت إمرة التاج الفرنسى.
وبعثت فرنسا بالمزيد من جنودها للمكسيك وتم إقناع ماكسميليان(وهو شقيق إمبراطور النمسا) ليكون إمبراطورا على المكسيك.
وكان ماكسميليان رجلا وسيما لين الجانب ضعيفا، لا يدرك أنه سيكون مخلبا لفرنسا الاستعمارية.
ولكن شعب المكسيك لم يرض به وثار عليه، وكلف ذلك الحكومة الفرنسية أموالا طائلة ورجالا كثيرين لم تكن تتوقع خسارتهم، خصوصا فى أنحاء المكسيك الموبوءة بالأمراض.
واستمرت الأورطة المصرية فى قتالها مع الفرنسيين، وسقط منهم الكثير فريسة للأمراض والأوبئة، ونتيجة عدم الاهتمام بهم.
ولم تكن عملية إطعام هؤلاء الجنود كافية بحيث تتناسب مع الأعمال الشاقة التى كانوا يكلفون بها.
وكانت أغلب حالات الموت تقع وسط هؤلاء الجنود المساكين. ومع ذلك أشاد الجميع بانضباط جنود الأورطة المصرية السودانية الذين سرعان ما أثبتوا جدارة فائقة، فقد كانوا لا يترددون فى أن يخاطروا بأرواحهم فى المواقع التى يخاف منها الجنود الفرنسيون.
وبالفعل نجحت الأورطة المصرية فى إحداث أثر إيجابى فى الحرب أتاح للجيش الفرنسى دخول مدينة مكسيكو العاصمة فى 6/7/ 1863، ومع نهاية 1863 كان الجنود المصريون قد خاضوا ثمانى معارك سجلوا فيها أعلى درجات الامتياز. وكانت أهم إنجازاتهم احتلال مدينة فيراكروز وحماية خطوط الاتصال بين المدينة الميناء والوحدات المتقدمة داخل البلاد وخارجها على السواء.
ولكن فرنسا لم تحقق ما كانت تريده من الحملة ولم تحصل على الأموال التى وعد بها الإمبراطور ماكسميليان، فبدأت تدريجيا فى التراجع عن أحلامها القديمة، وفى مقابل ذلك رفع قائد الجيش الفرنسى فى المكسيك تقريرا إلى وزارة الحربية المصرية بإنجازات الجنود المصريين فى المكسيك وخسائرهم، ورفع الوزير التقرير إلى الخديو إسماعيل الذى فرح كثيرا بإنجازات جنوده، وتفاصيل هذه الحملة مملوءة بصفحات مضيئة بشجاعة هؤلاء الجنود الذين شرفوا بلادهم، وكانوا علامة مضيئة فى تاريخ العسكرية المصرية.
ولذلك أمر ماكسميليان بزيادة راتبهم. وعندما عادت زوجته شارلوت إلى فرنسا لتحث نابليون الثالث على دعم زوجها، كان حرس الشرف الخاص بها من هؤلاء الجنود المصريين الذين نالوا شرف توديعها رسميا.
ومع نهاية 1865 كانت الأورطة المصرية قد خاضت سبعا وثلاثين معركة، وخاضت فى عام 1866 إحدى عشرة معركة أخرى ولكن حدث متغير عالمى مهم، فقد وضعت الحرب الأمريكية الأهلية أوزارها فى ربيع 1865.
وفى خريف ذات العام أيقن الجميع فشل الحرب المكسيكية.
وقامت الحكومة الأمريكية التى هزمت ولايات الجنوب بمطالبة الحكومة الفرنسية بسحب قواتها من المكسيك، ورفضت الاعتراف بالحكومة التى نصبها الفرنسيون وحركت قواتها فى بدايات عام 1866 نحو نيو جراندى، وعندئذ أيقن نابليون الثالث بأنه لا قبل له بأمريكا وجنودها، فأعلن صاغرا عن نيته فى سحب جيشه من المكسيك، وبقى ماكسميليان وحيدا بعد خذلان الفرنسيين له، ورغم فشل زوجته فى تغيير قرار نابليون أو الحصول على دعم من البابا فى روما، ولكن لم يكن حظها مع البابا أفضل مما كان مع نابليون الثالث.
وانتهى الأمر بالإمبراطور ماكسميليان بأن يخونه أقرب رجال المكسيك له، وأن يقع فى يد الثوار الذين سجنوه لمدة قصيرة قبل تقديمه إلى المحاكمة، ولم يفكر فى محاولة الهروب من الأسر، وانتهى به الأمر بأن حوكم بتهم التمرد والقتل والسطو المسلح، وأعدم رميا بالرصاص فى 19 يونيو 1867 رغم احتجاج ملوك أوروبا وشخصياتها البارزة.
ولم تسمح الحكومة الثورية بإعادة جثمانه إلى أوروبا إلا بعد لأى شديد.
وغادرت الكتيبة المصرية المكسيك مع باقى القوات الفرنسية فى فبراير من عام 1867 وعادت إلى مصر عن طريق فرنسا، وذلك بعد أن حاربوا ثمانى وأربعين معركة كسبوا أغلبها ونالوا عظيم التقدير والإشادة من السلطات العسكرية الفرنسية.
ووصلت الأورطة إلى باريس فى إبريل 1867 وتم استقبالهم استقبالا رسميا وأنعم عليهم بأنواط الشرف وتم عرضهم على نابليون الثالث الذى تفقد شخصيا طابور الشرف.
وكان برفقتهم وزير الحربية المصرية.
وصافح الإمبراطور بيده البمباشى محمد ألماس، وقلد العديد من الضباط والجنود الأوسمة، وغادرت الكتيبة فرنسا متجهة إلى مصر فى مايو من ذات العام وكان عدد أفرادها 313 من أصل 453 واستعرضهم الخديوى إسماعيل أمام باحة قصره فى رأس التين بالإسكندرية، وأعلن إسماعيل باشا عن ترقيات واسعة فى صفوف تلك الكتيبة، ورقى محمد ألماس إلى رتبة أميرالاى.
وقد تحدث بعض المؤرخين الفرنسيين عن تاريخ الجنود المصريين، لكن ما كتبه الأمير عمر طوسون (عن بطولة الأورطة السودانية المصرية فى حرب المكسيك) يعد أكمل ما كتب عن الموضوع. وفيما عدا هذا فإن ما هو موثق لهؤلاء الجنود لا يتعدى بعض الوثائق المطمورة فى أضابير أرشيف الحكومة المصرية أو فى رسائل قديمة منسية لبعض الأفراد، أو فى بعض الكتابات التاريخية التى خطها الجنود المصريون مثل عبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) على جدران بعض الكنائس والمعابد القديمة فى المكسيك، لا تزال باقية كأنها الشاهد الباقى على استغلال الاستعمار الاستيطانى القديم لأبناء المستعمرات الذين كان يحركهم لمصالحه، ويدخلهم حروبا مع أمثالهم من الواقعين تحت سطوته الوحشية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة