الخشاب كان ثالث ثلاثة من أعلام التأريخ والأدب في ذلك العصر، فقد كان الرجل معاصرًا للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي كما كان صديقًا له
إسماعيل بن سعد الخشاب، أحد أبرز الأدباء والمؤرخين الذين عاشوا في مصر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وكان الخشاب ثالث ثلاثة من أعلام التأريخ والأدب في ذلك العصر ممن تركوا بصمة واضحة في تاريخ مصر، فقد كان الرجل معاصرًا للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي، كما كان صديقًا مقربًا له، أما ثالث علماء ذلك العصر الذين برزوا في مجال الأدب والتأريخ فهو الشيخ حسن العطار والذي أصبح شيخًا للجامع الأزهر في عصر محمد علي، وهو الذي رشح رفاعة الطهطاوي رائد التنوير المصري ليكون إمامًا لطلاب بعثة محمد علي باشا إلى فرنسا، وكان الطهطاوي تلميذًا للشيخ العطار، وقد ترجم الجبرتي للخشاب والعطار فقال عنهما:
"كانا فريدًا وقتيهما ووحيدًا مصرهما لم يعززا في ذلك الوقت بثالث، فقد برعا في كل فن من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات...".
وقد ولد الخشاب في القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي، وإن كان تاريخ ميلاده على وجه التحديد مجهولًا، وتوفي في الثاني من ذي الحجة سنة 1230 هجرية الموافقة لسنة 1815 ميلادية، والخشاب هو إسماعيل بن سعد الوهبي الحسيني الشافعي، وقد عرف بالخشاب؛ لأن أباه كان نجارًا ففتح له مخزنًا لبيع الخشب تجاه تكية الجلشني بالقرب من باب زويلة، ويذكر الجبرتي أن الخشاب قد حفظ القرآن في صباه، وتتلمذ على بعض فقهاء عصره، وبرع في فقه الأمام الشافعي، واشتغل بالشهادة في المحاكم.
لكن العمل لم يحل بين الخشاب وبين اهتماماته بالأدب والكتابة؛ فواظب على مطالعة الكتب الأدبية وكتب التصوف والتاريخ، وحفظ كثيرًا من الأشعار والطرائف وقصص الصوفية، وقد أصبح الخشاب من أبرع المحاضرين والمحاورين في عصره فجالس العلماء والكتاب والأدباء والأمراء، كما كان شاعرًا وكاتبًا وأديبًا، وله ديوان يحوي أشعاره جمعه صديقه الشيخ حسن العطار في حياته، وطبع بعد وفاته.
كان الخشاب مثل زميليه الجبرتي والعطار رجلًا ناضجًا عندما وصلت الحملة الفرنسية لاحتلال مصر في صيف سنة 1798، وكانت لكل واحد من الأصدقاء الثلاثة قصته مع الحملة الفرنسية ورجالها، فما هي حكاية إسماعيل الخشاب مع الحملة؟
عندما استقرت الأمور للحملة الفرنسية في معظم أنحاء البلاد باستثناء الصعيد، بدأت في التعرف عن قرب على أوضاع مصر، لقد كان اهتمام الفرنسيين بمصر وأحوالها سابق على حملة بونابرت، كما كان التحضير للحملة يحتاج إلى تقصي الكثير من أخبار البلاد وأحوالها؛ لكن بونابرت اصطحب معه مجموعة من العلماء لدراسة أوضاع مصر، وقد أسفرت جهودهم عن عمل علمي ضخم صدر بعد رحيل الحملة عن مصر بعدة سنوات: كتاب "وصف مصر"، وقد استعان علماء الحملة الفرنسية في تأليفهم لكتاب وصف مصر بعدد من المصريين تعرفوا من خلالهم على بعض التفاصيل الدقيقة للحياة في مصر؛ حيث اتبع الفرنسيون أسلوب توجيه أسئلة محددة إلى بعض العلماء المصريين وبعض كبار الموظفين ليتحصلوا من خلال إجاباتهم عن تلك الأسئلة على ما يحتاجون إليه من بيانات لتأليف كتاب وصف مصر، وكانت الإجابات عن هذه الأسئلة تقدم كتابة باللغة العربية لعلماء الحملة، ليقوموا بترجمتها وتحليل ما تحويه من بيانات.
وقد حفظت المكتبات المصرية والفرنسية ثلاث مخطوطات تحمل إجابات مصرية على أسئلة فرنسية، كانت هذه المخطوطات تأخذ عادة شكل الأسئلة والأجوبة، ومنها مخطوطة بعنوان "ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية" عبارة عن مجموعة من الإجابات قدمها حسين أفندي الروزنامجي أحد أفندية الروزنامة، وهي الإدارة المالية في الدولة، ردًّا على أسئلة وجهها له استيف المسؤول المالي في الحملة الفرنسية، وتتضمن إجابة حسين أفندي الروزنامجي تفاصيل النظام المالي والإداري الذي كان سائدًا في مصر في العصر العثماني، وقد نشر هذا المخطوطة المؤرخ المصري الكبير الأستاذ شفيق غربال في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في مجلة كلية الآداب بالجامعة المصرية، أم المخطوطة الثانية للشيخ أحمد العريشي قاضي قضاة مصر زمن الحملة الفرنسية، وهو أول من يتولى هذا المنصب من المصريين منذ الاحتلال العثماني لمصر، وتتضمن ردوده عن الأسئلة التي وجهها له علماء الحملة حول النظام القضائي في مصر العثمانية، وتحمل عنوان "دفتر علم وبيان طرق القضاة وأسماؤهم بمصر المحروسة وأقاليمها" وقد نشره الأستاذ الدكتور محمد نور فرحات كملحق لدراسة له عن القضاء في مصر العثمانية، أما المخطوطة الثالثة فكتاب "أخبار أهل القرن الثاني عشر الهجري" للمؤرخ والأديب والشاعر إسماعيل الخشاب.
وإذا كان علماء الحملة وقادتها قد توجهوا بأسئلتهم حول النظم الإدارية والمالية لمن عينوه رئيسًا للجهاز المالي والإداري، وتوجهوا بأسئلتهم حول نظام القضاء لقاضي قضاة مصر الذي نصبوه في هذا الموقع؛ فقد لجأوا في التعرف على تاريخ مصر القريب للشيخ إسماعيل الخشاب الذي توطدت علاقته بالحملة من خلال عمله كاتبًا للديوان الذي أسسه بونابرت وجمع فيه بين قادة الحملة وممثلين عن طوائف المصريين؛ فقد توجهوا إليه ليستعينوا به في التعرف على تاريخ مصر في القرن السابق على مقدم الحملة، فكانت إجابته عليهم من خلال مخطوط أخبار أهل القرن الثاني عشر الهجري، الذي استهله بعبارة افتتاحية تؤكد أن ما كتبه كان إجابة على سؤال موجه إليه حيث يقول:
"بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي، والحمد لله الذي دلت مصنوعاته على قدرته، وهدى من شاء بما أبدع من حكمته إلى شهود وحدانيته، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ونوابه، وعلى آله وأصحابه، وبعد؛ فقد سألتني أرشدك الله من العمل إلى صوابه، وفتح لك باب الخير، وسلك بك ما يوصلك إلى بابه، أن أجمع لك جزءًا يشتمل على بعض أخبار القرن الثاني عشر، مما شاهدته عيني، أو نقلته عن من غير ذي جبت، إلى ذلك مستمدًا من فيض الملك الوهاب سلوك الصواب، إنه ولى ذلك وبه الإعانة على جميع ما هو مالك".
هذا وقد استفاد علماء الحملة بالفعل من هذا العمل، فقد اعتمد عليه لابورت مؤلف القسم الخاص بتاريخ مصر في العصر العثماني ضمن كتاب وصف مصر اعتمادًا كبيرًا، ومخطوط أخبار أهل القرن الثاني عشر الهجري كما يتضح من عبارته الافتتاحية إجابة عن سؤال حول تاريخ مصر في السنوات السابقة على الحملة الفرنسية، وقد راعى فيه مؤلفه الشيخ إسماعيل الخشاب الإيجاز والاختصار مركزًا على الحوادث الأساسية للقرن الثاني عشر الهجري فصاغها وقدمها في سرد موضوعي يساعد على متابعة الحوادث والوقائع.
ورغم وقوع الخشاب في بعض الأخطاء فيما يتعلق بتحديد تواريخ بعض الحوادث، خاصة تلك التي لم يعاصرها بنفسه، فإن المخطوط يكشف كثيرًا من جوانب تاريخ مصر في القرن الثاني عشر الهجري، ويرصد الخشاب في كتابه ملامح التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه، فيكشف المخطوط عن الصراع العنيف بين أوجاقات الحامية العثمانية في مصر، وبينهم وبين بكوات المماليك، ومن الأمور التي يلقي عليها الخشاب الضوء تعاظم دور العلماء ورجال الأزهر في الصراعات السياسية، وتصديهم المستمر لبطش المماليك بالشعب، ويرصد كذلك في بعض المواضع موقف عامة المصريين من تلك الحوادث، كما لم يغفل الخشاب رصد بعض الحركات المهمة مثل حركة علي بك الكبير والتي كانت تهدف إلى استقلال مصر عن الحكم العثماني، وحركة الهمامية في الصعيد، كما أشار إلى علاقة علي بك الكبير بضاهر العمر في فلسطين والتحالف الذي قام بينهما، وسجل كذلك بشيء من التفصيل وصول إبراهيم بك ومراد بك إلى الصدارة، ثم الثورة التي انتهت بإرغامهما على توقيع حجة تفرض عليهما قدرًا من رقابة العلماء ورجال الأزهر عليهما عند فرض الضرائب والرسوم.
هذا وقد اعتنى الخشاب رغم الإيجاز الشديد، في مؤلفه بذكر تفاصيل دقيقة لم ترد عند المؤرخين المعاصرين له، خاصة بعض التفاصيل المتعلقة بالصراعات بين أمراء المماليك وربما يرجع ذلك إلى اختلاطه بهؤلاء الأمراء، وقد تأثر الخشاب في تدوينه للحوادث التاريخية بثقافته الأدبية الواسعة وإلمامه بالطرف والنوادر، فزود مؤلفه ببعض النوادر والأشعار، ورغم أن النص الذي قدمه الخشاب موجز لا تتجاوز صفحاته الخمسين صفحة من القطع الصغير، إلا إنه مثل إسهامًا مصريًّا مهمًّا في إعداد الجزء التاريخي من كتاب وصف مصر.
وللخشاب كتاب آخر طبع محققًا مع ترجمة إلى الإنجليزية عام 1992، بعنوان: "خلاصة ما يراد من أخبار الأمير مراد"، سجل فيه سيرة هذا الأمير المملوكي الذي لعب دورًا مهمًّا في تاريخ مصر قبيل مجيء الحملة الفرنسية على مصر، ثم قاومها في الصعيد بعد مجيئها.
هذا وقد وفر عمل الخشاب كاتبًا في الديوان الذي أنشأه الفرنسيون الفرصة له لتسجيل وقائع الديوان؛ ويذكر الجبرتي أن الخشاب جمع في أثناء عمله بالديوان عدة كراريس دون فيها حوادث الديوان، استعان الجبرتي بمذكرات الخشاب تلك في تأليفه لتاريخه المعروف بكتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ويرى بعض الباحثين الذين أرخوا للصحافة العربية أن الخشاب يُعَد أول محرر لصحيفة عربية، صدرت عن الديوان في زمن الحملة الفرنسية، وكانت تحمل الأوامر والقرارات الصادرة عن قيادة الحملة أو عن الديوان، ولهذه الكراسات حكاية أخرى لا يتسع لها المجال هنا.
لقد عاش الخشاب فترة من أهم فترات التحول في تاريخ مصر الحديث؛ فقد شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر تحولات ثقافية واجتماعية مهمة مهدت لما حدث بعد ذلك في عصر محمد على، وكان الخشاب شاهدًا على تلك التحولات ومعاصرًا لها، كما عاش فترة الحملة الفرنسية بكل ما تركته من أثر على الفكر المصري، بل شارك في أحداثها عن قرب وكان فاعلًا فيها، وربما دفعت به هذه المشاركة إلى اعتزال الحياة العامة عقب خروج الحملة من مصر سنة 1801، في الفترة التي شهدت حالة من الاضطراب السياسي استمر حتى عام 1805، عندما نجح المصريون في إرغام السلطان العثماني على تولية محمد علي باشا حاكمًا للبلاد، فكانت المرة الأولى التي يستطيعون فيها اختيار حاكمهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة