كانت «ثقافة الترحيب» تطغى على «ثقافة الترحيل». وأكد استفتاء أجرته الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا هذه الحقيقة.
قبل أن يرتكب بضعة من الأشرار الاعتداءات البشعة على النساء اللواتي كن يحتفلن بعيد رأس السنة في مدينة كولون الألمانية، كانت «ثقافة الترحيب» تطغى على «ثقافة الترحيل». وأكد استفتاء أجرته الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا هذه الحقيقة.
فلقد أجاب 51 في المئة من الذين ردوا على الأسئلة، بأنهم يؤيدون قيام بيت للاجئين في الحي الذي يقطنونه، وأجاب 48 في المئة من المستفتين بأنهم مستعدون لتقديم مساعدات مادية للاجئين، و88 في المئة منهم بأنهم يعتقدون أن ألمانيا ستستفيد من قدوم اللاجئين والمهاجرين الى أراضيها. التخوف الوحيد الذي أبداه الذين شاركوا في الاستفتاء من قدوم الأعداد الكبرى من المهاجرين وخلال قترة قصيرة نسبياً، هو شعور 85 في المئة منهم بأن هذا الحدث سيسمح لليمين المتطرف باستخدام كل وسيلة للتحريض ضد «ثقافة الترحيب». وهذا التحفّظ الأخير لم يكن موجهاً، في نهاية المطاف، ضد المهاجرين واللاجئين أو ضد حكومة أنغيلا مركل التي شرعت الباب أمام تطبيق ثقافة الترحيب، وإنما ضد منظمات اليمين المتطرف المعادية للقيم الأساسية للدولة الألمانية.
لقد تغيرت الأجواء العامة تجاه الهجرة الخارجية بعد الفعل الجماعي الشنيع الذي ارتكبه مجرمو كولون. فالرأي العام في ألمانيا وأوروبا، كما لاحظ تلفزيون الـ «بي. بي. سي.» البريطاني، أصيب بصدمة كبرى نتيجة الجريمة الجماعية. وبينما كان الإعلام الألماني يتجاوب مع «ثقافة الترحيب»، فإن جريمة كولون أسفرت عن بروز وجهات النظر المناهضة لهذه الثقافة، وعن إعطاء حيّز أوسع في منابر الإعلام والسياسة الألمانية والأوروبية للمتعاطفين مع ثقافة الترحيل.
وفي هذه الأجواء البائسة، بدت المستشارة الألمانية كأنها تحوّلت الى رمز معزول في ألمانيا وأوروبا. فقد تداعى زعماء التحالف الحاكم في برلين، الذي يضم الديموقراطيين المسيحيين والديموقراطيين الاشتراكيين، الى مراجعة السياسة الحكومية تجاه المهاجرين واللاجئين.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الإقليمية الألمانية خلال الشهر المقبل، وبعد موقعة كولون البشعة، اندفع زعماء اليسار الألماني أنفسهم الى منافسة أحزاب اليمين على سرقة شعارات اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين.
وهكذا بينما كان الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديموقراطي مؤيداً في الماضي للتعددية الثقافية، إذا بالوزيرة أندرياس ناهلس، إحدى الزعيمات البارزات لهذا الجناح، تتّخذ موقفاً يتنافى مع التعدد الثقافي الذي كانت تروّج له سابقاً.
لم تنحصر المزايدات على أنغيلا مركل في ألمانيا، وإنما انتقلت الى خارجها، وتحوّل مؤتمر ميونيخ الأمني الثاني والخمسون، الذي انعقد خلال الأيام الماضية، الى مجال للنقد الضمني أو حتى أحياناً العلني والفج للسياسة التي اتبعتها المستشارة الألمانية تجاه قضية المهاجرين الى أوروبا.
فعلى رغم امتداحه شخص مركل، أعرب جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، عن قلقه من إفساح المجال أمام الهجرة غير المقيّدة الى القارة، لأنها... «تشكل خطراً وجودياً عليهاً، ثم أضاف قائلاً، في إشارة واضحة الى الطابع العربي لكثرة المهاجرين، أنها تهدّد «نسيج الحياة فيها».
وشارك رئيس حكومة الحزب الاشتراكي الفرنسي مانويل فالس، وزير الخارجية الأميركي مخاوفه على مستقبل القارة الأوروبية نتيجة فتح باب الهجرة إليها، ودعا القارة الى استعاده سيطرتها على حدودها. ولعلّ ديمتري مدفيديف، رئيس الحكومة الروسية، كان الأعلى صوتاً بين المشاركين في المؤتمر، الذين عارضوا سياسة مركل، إذ قال إنه... «من الغباء فتح أبواب أوروبا مشرعة أمام المهاجرين ودعوتهم الى القدوم الى القارة... إن سياسة الهجرة التي تتبعها أوروبا فاشلة كلياً».
من الصعب أن يعتبر المرء العدوان الجماعي الذي ارتكبه بضعة من المجرمين الأشرار ضد النسوة المشاركات في عيد رأس السنة، سبباً في تراجع «ثقافة الترحيب» امام «ثقافة الترحيل» في أوساط الرأي العام والمنابر السياسية والإعلامية في ألمانيا وبقية دول أوروبا الغربية.
كما أنه من الصعب الموافقة على ما جاء في افتتاحية مجلة «الإيكونومست» الدولية، إذ اعتبرت صورة جثة الطفل البريء آيلان كردي الذي وجد ميتاً على أحد الشواطئ التركية بعد أن فقدته عائلته بينما كانت تحاول العبور الى أوروبا، هي التي غيّرت موقف الأوروبيين تجاه هجرة السوريين الى القارة.
لقد سبقت كلاً من الحدثين أحداث أخرى كثيرة، يمكن العودة إليها واكتشاف تأثيرها في الرأي العام وأصحاب القرار في ألمانيا وأوروبا.
وسنجد أن هذه الأحداث لا تحقّق نتائجها في صورة مفاجئة، لكنها تصل أحياناً الى منعطفات حادة فتمارس التأثير الذي يبدو كأنه من صنع اللحظة.
كذلك، سنجد أن أوروبا اليوم هي عرضة لتجاذب كبير من داخلها بين تيارين، كلاهما يدرك أن القارة أمام تطورات مهمة ومصيرية: واحد منهما يدعو الى تحويل القارة الى «قلعة محصنة»، ضد المهاجرين وضد التعاون والتعاضد مع الدول والشعوب والقارات الأخرى.
ومن بين القوى التي يضمّها هذا التيار، الجماعات العنصرية والمروِّجة للإمبريالية الجديدة والمحرِّضة ضد الجيران، بخاصة العرب الذين «يعتزمون السيطرة على أوروبا وتحويلها الى أوريبيا»!. وتيار آخر يدعو الى انفتاح القارة والاتحاد الأوروبي على الدول والشعوب الأخرى، والى اضطلاع أوروبا بدور كبير في قيادة العالم نحو نظام جديد يخلو من المظالم الاجتماعية والقومية والحروب.
الدعوة الى «ثقافة الترحيب» تأتي من قلب التيار الثاني. ومن الطبيعي أن ينظر الذين يتعاطفون مع ضحايا الحرب السورية والحروب الأخرى التي تجتاح المنطقة، الى هذه الدعوة والى الذين يتبنونها في أوروبا بعين التقدير والاحترام. كما أنه من البديهي أن يتمنى المرء لهؤلاء القادة والزعماء في أوروبا النجاح في مساعيهم.
ويبدو أنه حتى تتحقق مثل هذه التمنيات، فإنه من المفيد مراجعة الطريق الذي سلكته «ثقافة الترحيب»، إذ بدت أحياناً كأنها من قبيل التضامن البحت مع المهاجرين البائسين.
ولقد دلّل الألمان والسويديون والعديد من شعوب أوروبا وزعمائها، على أنه يحملون في قلوبهم فعلاً مثل هذه المشاعر، ما كان له الأثر العميق في أفئدة الشعوب التي جاء المهاجرون منها.
ومن الضروري أن ينغرس هذا المشهد في الذاكرة الجماعية لهذه الشعوب حتى تتأكد أن لأوروبا وجهاً آخر يختلف عن وجه الجماعات العنصرية.
بيد أن اقتصار الجدل حول مسألة الهجرة الى أوروبا، أي الجانب الإنساني فحسب، قد يفيد، ولو عن غير قصد بالطبع، الجماعات العنصرية.
فهذه الجماعات سرعان ما تستخرج من هذه المناقشات مادة للتحريض ضد المهاجر الذي تصوّره على أنه غريب جشع يطمع في أرزاق الأوروبيين ويريد أن يقاسمهم، بغير حق، خيرات أوروبا.
من أجل تعطيل مفعول هذا النوع من الإعلام العنصري المعادي للمهاجرين، واستطراداً للقيادات الأوروبية التي وقفت موقفاً إنسانيا وسياسياً سليماً من هذه المسألة، فإنه من الضروري نشر الأرقام والمعلومات التي توصلت إليها بيوت المعرفة الدولية والأوروبية حول الفوائد الكبرى التي تحققها القارة الأوروبية نتيجة فتح الأبواب أمام الهجرة من خارج القارة.
إن الهجرة تعوّض القارة عن تدنّي معدل الشباب بين سكانها، كما تعوّض القارة عن ازدياد نسبة المتقاعدين من بين الأوروبيين على نسبة دافعي الضرائب.
والهجرة الى القارة تمكّنها من تحقيق الفوائد نفسها التي تجنيها الولايات المتحدة اليوم من فتح أبوابها أمام مئات الألوف من الفيتناميين والصينيين الذين هاجروا إليها في أعقاب التطورات السياسية الراديكالية في شرق آسيا. لقد أدت هذه الهجرة الجماعية الى انتعاش الاقتصاد الأميركي وليس الى تراجعه.
ومن الأرجح أن تؤدي الهجرة من دول الجوار الأوروبي الى داخله الى مثل هذه النتائج.
وسط هذه التوقعات، يزداد تقدير المرء لـ «ثقافة الترحيب» التي تنتشر بين الأوروبيين على رغم جريمة محطة كولون، كما يزداد تقديره للموقف الذي اتخذته قيادات أوروبية مثل المستشارة الألمانية مركل عندما تبنت هذه الثقافة وساعدت على نشرها بين الألمان والأوروبيين.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة