يلعب الراوي دورا أساسيا في ملحمة الكتيبة السوداء فهو العليم بكل شيء, وهو الذي يدخلنا إلي عوالم الشخصيات, ويضعنا في قلب الأحداث
يلعب الراوي دورا أساسيا في ملحمة الكتيبة السوداء فهو العليم بكل شيء, وهو الذي يدخلنا إلي عوالم الشخصيات, ويضعنا في قلب الأحداث, ويسافر بنا عبر البحار والمحيطات غير غافل عن شيء, وكأنه يمتلك قدرة سحرية تنقلنا عبر الزمن, فيعود بنا إلي سنوات القرن التاسع عشر, من سنة1863 م إلي سنة1867 م, وهي السنوات الأربع التي شهدت وقائع الحملة المصرية السودانية التي ذهبت لمناصرة الأمير ماكسميليان ـ شقيق إمبراطور النمسا ـ الذي نصبه نابليون الثالث إمبراطورا علي المكسيك, وينتقل الراوي عبر الأحداث والشخصيات, خلال تسعة عشر فصلا, منقسمة بين الحملة المصرية وشخصياتها من ناحية, والإمبراطور ماكسميليان وزوجه شارلوت( أو كارلوتا كما أطلق عليها المكسيكيون) من ناحية موازية, ولا يتخلي الراوي عن عدالة سرده الذي يجمع بين النقيضين: أبناء المستعمرات المقموعين الذين يؤدون دور القامعين علي مقموعين من أمثالهم, في موازاة إمبراطور وإمبراطورة يزج بهما- طمعا منهما- في صراع تخوضه إمبراطورية فرنسية في طريقها إلي الأفول, وتلقي بهما إلي التهلكة والدمار.
ويحكي الفصل الأول عن تاجر العبيد, ثم ينتقل الفصل الثاني إلي ماكسميليان وزوجه شارلوت بعد أن يوافق البرلمان المكسيكي علي توليهما الإمبراطورية, ويذهب الاثنان إلي المكسيك حالمين بمجد جديد وإمبراطورية قوية, وبعد ذلك يأتي الفصل الثالث عن الأورطة وتشكيلها وظهور محمد أفندي ألماس فيها, ثم يأتي الفصل الرابع ويذهب ماكسميليان لمقابلة نابليون الثالث زوج أويني, وبعدها يذهبان إلي مقابلة الملكة يكتوريا التي تقابل ماكسميليان بحنو كبير وتودعه بكلمات تبدو كأنها النبوءة التي تتحقق في النهاية.
وننتقل إلي الفصل الخامس حيث الأورطة المصرية بقيادة جبر الله, وهو سوري جاء إلي مصر في عهد إبراهيم باشا ليشاركه فتوحاته, ولكنه يموت بعد أن يصل إلي المكسيك عبر المحيط, خصوصا بعد أن يعلم أن نابليون الثالث أوصاه العلماء الفرنسيون الذين تابعوا تساقط الجنود الفرنسيين في غابات المكسيك, صرعي للحمي الصفراء, بأن يستعين بجنود سود من أراضي المستعمرات, لأن جلودهم السوداء ذات قدرة علي مقاومة الحمي التي تقصف أعمار الجنود الفرنسيين في الغابات المكسيكية. وبمجرد أن يعرف قائد الكتيبة ذلك يصاب بالحمي الصفراء فعلا ويموت, قبل أن يدخل أي معركة مع جنوده. ويمضي الفصل الخامس ساردا تفاصيل الرحلة المرعبة للكتيبة السوداء عبر المحيط, وتنقضي سنة1863 م مع وصول الكتيبة السوداء إلي أرض المكسيك, وهكذا ندخل في سنة1864 م ليتحقق حلم الإمبراطور ماكسميليان والإمبراطورة شارلوت, وطوال عامي1864 م, و1865م تستمر الحرب بين الجيش الفرنسي, والثوار المكسيكيين بقيادة بنيتو خواريز الرئيس المخلوع للمكسيك الذي بدأت تدعمه الولايات المتحدة وازداد دعمها له, خصوصا بعد أن انتهت الحرب الأهلية الأمريكية, وانتصر الشمال علي الجنوب.
والراوي في السرد ينطوي علي مزاج خاص, فهو لا يقدم لنا إلا ما يريدنا أن نعرفه, فيعجل بحياة قائد الكتيبة السوري, ويفاجئنا باختفاء مظلوم عبد الأحد, الشخصية الطريفة التي ظلت تخفف عن الجنود آلامهم ومصاعب حربهم بصوته العذب, وأغانيه التي تثير الحنين إلي أن تخترق رأسه رصاصة طائشة, كأنها نوع من الاستباق الآخر أو النبوءة التي تشير إلي النهاية, ولكن يظل هذا الراوي محافظا علي شخصيات علي جوفان الأسواني, والعاصي, والاسم الأخير أطلقه تاجر العبيد علي أحد أبناء قبيلة الدنكا الذي اشتراه مع غيره من العبيد, وحاول الهرب, لكن بندقية تاجر العبيد كانت له بالمرصاد, فاقترب من الموت, ولكنه شفي بعد لأي ومعالجة, وهكذا يستمر الراوي في السرد مركزا علي شخصية الصاغ محمد ألماس الذي أصبح قائدا للكتيبة, وعلي جوفان الأسواني والعاصي. وتتركز أصوات السرد في الفصول الخمسة التي تصور الثنائية الضدية بين أحلام الثلاثة وأحلام الإمبراطور وزوجه, إلي أن يتصاعد إحساس الإمبراطور بالحيرة إزاء المواقف المتأزمة التي لا يستطيع حلها, ثم ننتقل إلي سنة1865 م, حيث يواصل أبناء الكتيبة حربهم ضد الثوار المكسيكيين من ناحية, وحياتهم في خدمة الإمبراطور والإمبراطورة التي ينقذها أربعة من الجنود السود علي رأسهم العاصي الذي يبقيه الراوي حيا إلي الفصل الأخير من الرواية, وتواصل الكتيبة السوداء حربها في سنة1865 م, وهنا يظهر الراوي كيف يمارس المقموعون السود أقصي درجات قمعهم علي أبناء المكسيك دون أن يدروا أنهم مستعبدون مثلهم, ولذلك عندما تقول إيزابيلا صاحبة الحانة التي أحبها ألماس أفندي: أنا أشفق عليك أنت ورجالك لما فعلته, وأعرف أنك تعاني, ولكنك تحارب في الجانب الخاطئ فينظر إليها قائلا: إنها الحرب, ولا مكان للخطأ والصواب, يوجد فقط منتصر أو مهزوم, وحي أو ميت فتقول له: هذه الحرب ستهزمكم جميعا, ستحول الجميع إلي وحوش حقيقيين فيدرك, وهو عائد إلي المعسكر, أن العالم قد تغير من حوله, يري الجنود جالسين, وهم ينظفون أسلحتهم, انتظارا لجولة جديدة من القتال, يتأمل البيوت التي تحيط بالمعسكر, ويسأل نفسه حائرا, وهو يتطلع إلي جنوده هل يعرفون هم أيضا أنهم يحاربون في الجانب الخاطئ وتمضي الحرب التي لا تنتج سوي ضحايا علي الجانبين, وفجأة نتيجة لغروب شمس الإمبراطوريات الأوربية القديمة, وتغير موازين القوي في أوروبا, يقرر نابليون الثالث انسحاب جيوشه من المكسيك, متراجعا عن التعهد الكتابي الذي كتبه لماكسميليان, ويرسل بذلك خطابا إلي ماكسميليان الذي يجن جنونه, ويشعر بالخديعة, والورطة المأساوية التي وجد نفسه فيها, فتقرر زوجه الذهاب إلي فرنسا, وتختار أن يصحبها العاصي حارسا خاصا لها, وفي بلدها تدرك في أعماقها أوجه الشبه بينها وبين العاصي, فكلاهما ضحية.
ولا ينسي السارد الجندي الأثير إلي نفسه- في السرد- علي جوفان الأسواني, فبعد المقتلة التي أوقعتها الكتيبة السوداء بسكان المدينة الميناء فيرا كروز يذهب وزملاؤه إلي السجن حيث يقابل عشيقة أحد الضباط الفرنسيين, متهمة إياه بقتل زوجها, فتلفت انتباهه, ويتعلم الإسبانية من أجلها, لكي يخبرها بأنه لم يقتل زوجها, ولعله قتله علي سبيل الخطأ, ويبحث عنها كثيرا كي يقول لها هذا الكلام, وأخيرا يعثر عليها في بيت للدعارة, وتقوم بينهما علاقة تنتهي بالحب, وعندما يهددهما الضابط الفرنسي, لا يجد علي جوفان مفرا من قتله. وينطلق هاربا مع ماريانا تاركين كل شيء وراءهما, الحرب والمقموعين القامعين, والقاتلين القتلة, ويصلان إلي منزل أسرة ماريانا بعد صعاب كثيرة, ويعثر عليه الثوار من أتباع خواريز, فيوسعونه ضربا إلي أن يتأكدوا من موته, ثم يغادرونه وهو علي شفا الموت بالفعل, ولكن ماريانا تحمله إلي الغابة, وتنجح في علاجه مستعينة بخبرات الغجر الرحل, فيعود إلي الحياة. ويواصلان حياتهما في سلام بعد أن تزوجها في كنيسة ناسيا, إنه مسلم وهي مسيحية, وعندما تنجب منه ولدها, ويسمع الصرخة الأولي لابنه يشعر أن من حقه أن يعيش في هذه البلاد, علي الأرض التي تجمعه مع المرأة التي يحبها, والولد الذي انحدر من صلبه.
وتنتهي الرواية في هذه الغابة النائية من أرض المكسيك, بعد أن تعرف واحد من المقموعين السود علي واحدة ممن جاء مع أقرانه لقمعهم, فيربط بينهما الشعور بالقمع, ويقرران بناء حياتهما ـ كأسرة ـ بعيدا عن عالم المقتولين القتلة, ووصل بينهما أعظم ما في الإنسانية, وهو الحب الحقيقي الذي يجمع المختلف لكي يأتلف بين شعوب الأرض رغم اختلاف جنسياتها وألوان بشرتها. وتلك هي الرسالة الأخيرة التي يختتم بها محمد المنسي قنديل رائعته كتيبة سوداء. واللافت للانتباه حقا أن كل الشخصيات التي خصها الراوي بالاهتمام والتركيز السردي, تموت جميعا في النهاية, ولا يبقي منها أحد, كما لو كان الراوي يعاقبهم علي وقوفهم مع الجانب الخاطئ.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة