في يوم اللغة الأم: عن المالطية الجديدة
كنا ثلة من الشعراء العرب، مجتمعين في ضيافة سلطنة عُمان السخية. وتلك كانت المرة الأولى التي ألتقي بها الشاعرة البحرينية حمدة خميس
كنا ثلة من الشعراء العرب (حراس اللغة؟!)، مجتمعين في ضيافة سلطنة عُمان السخية. وتلك كانت المرة الأولى التي ألتقي بها الشاعرة البحرينية حمدة خميس، الرائعة ببهجتها الدائمة وروحها الوثابة. في السهرة التي رتّبها لنا سعدي يوسف على شاطئ قصر البستان، راحت الشاعرة خميس تحدّثنا عمّا أسمته لغة "المالطية الجديدة"، الناشئة في الدول الخليجية.
واللغة المالطية (الأصلية) سأعاينها وأصغي إليها بعد عشر سنوات من تلك السهرة العُمانية، أثناء مشاركتي في مهرجان الشعر المتوسطي بجنوب فرنسا، حين ألقى شاعر مالطي مرموق قصائده. الإسبان وهم يصغون إليه ظنوا للوهلة الأولى أنه شاعر إسباني، لكن ثمة كلمات غريبة عنهم وغامضة. الفرنسيون انتبهوا أن الكثير من المفردات في القصائد المالطية تبدو فرنسية. الإيطاليون كانوا يصغون إليه بإلفة واستغراب إذ لاحظوا خليط ألفاظ إيطالية مع ألفاظ مجهولة لا تمت للغتهم بصلة. ونحن العرب كانت دهشتنا أكبر، إذ أننا كنا نفهم القصيدة المالطية تماماً كما لو أنها مكتوبة بالعربية، لكن بطعم وأصداء القرون الوسطى، منطوقة بلسان أعجمي أو "بربري".
هي إذاً لغة هجينة على نحو نموذجي، امتزجت فيها لغات البحر المتوسط وتداخلت، بكيفية تُناسب تاريخ جزيرة مالطا، القريبة من شواطئ ليبيا. وإذا كان المتوسط هو قلب العالم القديم، فإن مالطا هي في صميمه، هي إحدى النقاط التي اجتمعت وانصهرت فيها مكونات ذاك البحر وثقافاته وحضاراته وغزواته وتجاراته وأساطيله وأديانه.
أما "المالطية الجديدة" التي راحت تحدثنا عنها الشاعرة حمدة خميس، فهي هنا في بلدان الخليج العربي، حيث تحولت المدن المعولمة كدبي وأبوظبي والدوحة والمنامة والكويت.. إلى حواضر عمرانية مزدهرة، تستقطب الأعمال والمشاريع والتجارة، فتستقبل الوافدين من كل جنسيات الأرض. هنا حيث الرفاهية وشروط الحياة العصرية السريعة، والطموحات الكبيرة، وخطط الحكومات في البنى التحتية العملاقة ومشاريع التنمية المستدامة والرعايا الاجتماعية الفائقة بالمواطنين.. استلزمت، منذ عقود مديدة، استقدام العمال وأصحاب الكفاءات والاختصاصيين في كل مناحي العمل وأوجه الحياة اليومية والإدارة والصيانة والخدمات. كان لا بد من "الوافدين"، الذين تغيرت جنسياتهم ومنابتهم في كل حقبة، وفق تغير الأدوار الاقتصادية والمشاريع الأساسية في كل بلد أو مدينة خليجية، أو تغير حاجاتها العملية والوظيفية.
هكذا، تراكمت وتوالت هجرات وجنسيات كثيرة في الإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر وعُمان والبحرين والكويت. هنود (بقومياتهم وإثنياتهم ولغاتهم الكثيرة) وباكستانيون وإيرانيون وأندونيسيون وأفغان وروس وقوقازيون وإنكليز وجنوب أفريقيون وأستراليون وفرنسيون، يضاف إليهم بطبيعة الحال العرب المصريين والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والسوريين والأردنيين والتوانسة والمغاربة.. وقد نجد أيضاً موريتانيين وصوماليين إلى جانب الأثيوبيين والأريتريين. بعبارة أخرى، هنا برج بابل اللغات واللهجات والألوان والمعتقدات والثقافات، تتعايش وتتواصل وتتعاون معاً على نحو مدوّخ وسحري.
في دواخل البيوت، خدم ومدبرو منازل وسائقون وطهاة وبستانيون وسمكريون وتقنيو الصيانة من جنسيات ولغات لا عد لها. في متاهات الأسواق والمولات، باعة وتجار وعمال وموظفون أتوا من كل جهات الأرض. في الشوارع محال لشتى المهن، دكاكين لكل الحاجات، ومطاعم لمطابخ ومأكولات العالم، ولأذواق لا حصر لها. يكفي أن تعبر مطار دبي لتغمرك أصوات وألفاظ عشرات اللغات، المألوفة والغريبة والمجهولة تماماً. فهنا حديث بالبوسنية، وهناك دردشة بالتركية، وهنالك الهولندي والصيني وطاجيكي.. بل يكفي فقط أن تجلس في أي مقهى شعبي لتسمع على الأقل غرائب اللكنات العربية، فالصعيدي المصري والبصراوي العراقي والجبلي اللبناني والغوراني الفلسطيني والحموي السوري، مثالاً لا حصراً، وبالكاد تستطيع أن تتماسك في لسان عربي واضح وفصيح.
في عُمان، أثناء تلك الزيارة، اكتشفت تاريخاً سابقاً من التهجين اللغوي والثقافي الساحر، شيء من الهند القديمة وجزر سيلان والعوالم السندبادية، وشيء مذهل من شواطئ أفريقيا الشرقية وجزرها، بل وحتى نذر قليل من البرتغالية! كنت أرى ذلك في هندسة البيوت والأبواب والقلاع والطعام والموسيقى وسحن الوجوه واللباس، لكن الأهم كان في تلك اللغة "السواحلية" وإيقاعاتها الرائعة، والغنائية الطليقة فيها.
كانت حمدة خميس، تروي معضلة الأجيال الجديدة من المواطنين، الذين كانوا مثلاً برعاية مدبرة منزل آسيوية تتحدث بانكليزية ركيكة وتلقنهم ألفاظاً وتعابير من لغتها الأم، ويتحادثون مع الأهل بلهجة محلية، حضرية أو بدوية، ويذهبون إلى المدرسة، برفقة سائق أجنبي له هو أيضاً لغته الأم، ويتعلمون عربية فصحى على يد أستاذ مصري يعجن الفصحى بعاميته القوية والجذابة، ويتحادثون فيما بينهم بإنكليزية رصينة يكتسبونها تعليماً مدرسياً، ويتلقفونها على نحو غامر من وسائط الترفيه السينمائي والتلفزيوني والأنترنتي والموسيقي، كما من نمط الحياة اليومية في تواصلهم البديهي والطبيعي مع مختلف جنسيات الوافدين، بوصفها لغة وسيطة وجامعة.
إذاً، ها هي "المالطية الجديدة". لغة كل اللغات. لغة العالم، في برج بابل معاصر باذخ ومفعم بأصواته. وميزة تلك المالطية الجديدة انتظامها على لغة وسيطة هي الإنكليزية، بوصفها "لغة بيضاء" للعمل والتواصل، لغة حيادية للتفاهم ولتداول الأفكار وتسيير الأعمال.
تلك نعمة وليست معضلة. أهل مدن الخليج وسكانها، مواطنون ومقيمون، يبتكرون لغة هي بسعة العالم التي تستجيب لفكرة العولمة بكل تحولاتها، ما بعد القومية، المتعددة الجنسيات المنسجمة والمتعاونة بروح إنسانية خلّاقة.
بقدر ما تخسر لغتنا الأم، العربية الفصحى، من حضور عملي وثقافي واضح، يمكنها أن تكسب أيضاً تلقيحاً هائلاً من مصادر لغوية وثقافية تغنيها وتوسعها وتجعلها قادرة على التجديد والاستيعاب والابتكار، بشرط أن نحسن في غيرتنا على لغتنا، فلا نغلقها ولا ننزع نحو "أصولية" تجمدها وتخرجها من الزمن. هذا هو التحدي الذي عرفه العرب، حين خرجوا برسالتهم إلى بلاد الشام وأرض الكنانة وفارس والهند ودخلوا أرض الروم وشمال أفريقيا والأندلس.. ومالطا. فهم ترجموا واستدخلوا وطعّموا وهجّنوا وطوروا وهضموا آلاف المفردات والألفاظ والكلمات و"عرّبوها". فما نظنه "لغة عربية" في عصرها الذهبي، الأموي والعباسي والأندلسي، هي لغة ما بعد "الجزيرة العربية" وألسنة قبائلها. هي لغة الحضارة الإسلامية وفضاؤها الرحب والشاسع. لغة "العولمة" في تلك العصور.
فلتكن لغتنا "حيّة"، لتكن لغة "البارك" و"المول" و"السكول" و"البنك" و"الموزيك" و"الفيلم" و"الغرافيتي" و"السايت" و"التلفون" و"الكمبيوتر" و"التلفزيون".. بلا عقد نقص، بلا تجهم ولا خوف. مالطية جديدة تدهش العالم.
aXA6IDMuMTQ4LjEwOC4yMDEg جزيرة ام اند امز