ليس هذا سؤالا للمتشنجين.. ولا لمحتكرى الحقيقة.. ولا لأنصاف الآلهة أصحاب الكمال «الدينى» أو الكمال «الوطنى» أو الكمال «الثورى»
هل مصر مازالت «دولة»..؟!!
ليس هذا سؤالا للمتشنجين.. ولا لمحتكرى الحقيقة.. ولا لأنصاف الآلهة أصحاب الكمال «الدينى» أو الكمال «الوطنى» أو الكمال «الثورى»..! فلهؤلاء دولتهم ولنا وطن..!
بل هو سؤال لآحاد الناس.. البشر العاديين أمثالنا ممن يعرفون أنهم خُلقوا بشراً.. يسرى عليهم ما يسرى على البشر من سنن إلهية..!
وهو قبل ذلك وبعده مسؤولية العدول والعقلاء منا.. الذين يعرفون أن كل «واقع» ليس له نصيب من «حقيقة» إلا إذا استوفى أسباب وجوده وتحمل مسؤولياته.
هذا سؤال استفهام.. حتى وإن بدا فيه استنكار وتعجب.. واللهِ.. سؤال استفهام..!
ليست فيه رغبة ولا نية ولا ظل «إسقاط» سياسى.. بقدر ما يحمل من خوف ووجل كبير من «سقوط» إنسانى نُساق له..!
هو سؤال ليس فقط مشروعا ولكنه واجب.. لأنه مرة أخرى- ورغم أى ممن يتحسسون رؤوسهم أو كراسيهم- لزاماً علينا أن نعرف أين نقف من التاريخ.. لكى نملك الحق والقدرة على تحديد وجهتنا.. أين نريد أن نكون وقبلها أين يلزم أن نكون..!
وهو سؤال حتمى.. لأن مصر تجاوزت رفاهية الصراع السياسى التقليدى على سلطة.. وأصبحت لا تتحمل إلا صيغة صادقة لـ«شراكة الهمّ» فى مجتمع أشرف على الحضيض «بتعبير جمال حمدان».. مجتمع لم يبق له نصيب فى معانى الوطن والدولة إلا الاسم.. وبعض ركام مما كان..!
وحتى نصل إلى المراد.. مصر بالواقع القانونى.. من حيث اكتمال الهياكل والمدونات والاعتراف والتمثيل الدولى.. هى دولة..!
ولكن من حيث استحقاقات التاريخ والإنسانية.. من حيث الوعى بسبب وجودها.. وقَدْرِها وقَدَرِها.. ودورها نحو بشر ينتمى إليها تخوض بهم صراع وجودها وترقيها.. كطرف ند شريك فى الحضارة الإنسانية.. قبل أن أقول: طرف قائد.. فهى مخاصمة لمعنى الدولة..!
وقبل أن يستل أوصياء الوطنية سيوفهم فى وصلات التخوين والبذاءة.. للعقلاء نقول: هى أمور أشبه بالواقع الروتينى الذى يشهد لنا أننا بشر.. كشهادات الميلاد وبطاقات الهوية ووثائق السفر.. كل ذلك يشهد أننا موجودون.. أما قدراتنا وأهليتنا لخوض صراع الحياة.. أو تحقيق مراد الله فينا إعماراً وترقِّياً.. فذلك لا تشهد به ولن تشهد به أى أوراق أو وثائق قانونية.
فقد نكون بشراً من «واقع» أوراق الوثائق..أما حين نَدب على أرض «الحقيقة».. فقد يصدم أى أحد أنه دون البشر..!
فإن كان «ليس كل» ما يدب على الأرض بشراً.. يبقى «كل» ما يدب على الأرض دوابّ..!
ولكى نتيقن من إرادة مصر فى استعادة جوهر الدولة الذى غادرناه.. علينا أن نجيب- بالممارسة لا بالقول ولا بكرنفالات السياسة- عن أسئلة وجود أخرى..
هل مصر تعرف الآن.. دوراً للاقتصاد أو تعريفاً له بمفهوم تلك اللحظة من التاريخ عام 2016..؟!
هل مصر جادة فى أن تعرف كما عرف العالم الجاد العاقل احتياجاته عندما واجه الكساد أو عصفت الحروب العالمية بأحلام الرفاه والرخاء..؟!
هل تعرف مصر الرسمية والأهلية- بحق وبعيداً عن الأرقام والمؤشرات التقليدية- حقيقة تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية والنفسية..؟!
هل تعرف إلى أى مدى كل ذلك متداخل ومتشابك على نحو لا يُغنى معه إقرار لفظى.. من نوع «إحنا عارفين إن عندنا مشاكل» أو «إحنا عارفين أمراضنا كويس»..!
هل تعرف مصر أن العالم عندما- كان ومازال- جاداً عاقلاً فى مواجهة كوارث بقائه.. رجع إلى الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى تحكمه.. وبحث عن العوار فيها قبل أن يبقى يدور فى فراغ الممارسات اليومية.. فيغير الوجوه ويمارس فعلا مسرحيا كأنه يدير حياة..؟!
هل تعرف مصر أن الدول الحقيقية.. تُلزم نفسها بالبحث عن الحقيقة فى أصولها وليس على تخومها.. فتبحث عنها عند «جون ماينارد كينز» و«فردريك فون هايك» و«أمارتيا سين» و«جو ستيجلتز».. ومَن سبقوهم ومَن لحقوهم ممن بحثوا فى أصل الداء وأصل الدواء.. وممن لم يخدعوا أنفسهم بعلاج أمراض الأوطان القاتلة بضمادات الجروح..!
هل تعرف مصر كل هذا أو تريد أن تعرف كل هذا.. بعيداً عن شبح الكيد السياسى أو التسويق السياسى.. وبعيداً عن سياق الخوف على السلطة أو الخوف منها..؟!
هل تستطيع مصر أن تضع قاعدة لحوار منهجى علمى إنسانى.. بعيداً عن الصخب والمكايدة والرغبة فى الانتصار للشخوص أو للمؤسسات.. وبعيدا عن التوجس من الانكشاف أو المحاسبة.. نتحدث فيه بموضوعية عن حقيقة وضعنا الإنسانى.. كيف كنا.. وكيف أصبحنا.. وكيف يلزم أن نكون..؟!
هل تريد مصر أن تعرف.. وتستطيع أن تتحمل المؤونة- النفسية قبل المادية- لمواجهة نفسها بحقيقة دور الأمن ومؤسساته فى المجتمعات.. بعيداً عن أمن السلطة وتأمين بقاء الأنظمة، وهو ما عرفناه فى مصر التى كانت.. والذى أودى بنا لمصر التى أصبحت..!
هل تريد مصر أن تعرف.. جوهر مشاكل الأمن ومؤسساته بداية من عقيدته ونظرته للمجتمع الذى يؤمِّنه.. إلى وعيه بفلسفة الأمن كعنصر ضمان الحرية والعدل بإقراره للقانون وإنفاذه له.. وأنه وُجد لكى يحمى ويدعم.. لا لكى يقمع ويتسيَّد..!
هل تستطيع مصر- دون مزايدات سياسية أو دغدغة لمشاعر الناس- أن تواجه نفسها بحقيقة دور المواطن وحال المواطن الذى تريد.. وباعوجاج الفطرة الذى طال قطاعات كبيرة فى مجتمعها..؟!
هل تستطيع مصر أن تجد لكل ملف: صحة وتعليم وإعلام واقتصاد وأمن وقضاء.. «إطارا قادرا مؤهلا» يقف على حقيقة الواقع «القائم».. ووضع ملامح لطريق ورؤية للمأمول «القادم»..؟!
إذا استطاعت مصر- عقلاءً وعدولاً أيا كان موقعهم سلطة وحكاماً ومحكومين- أن تقرر ألا تستقيل من التاريخ بأن تصدق نفسها وتتلمس طريق الصدق عملياً فى الإجابة عن بعض مما سبق.. تكون قد أجابت عن سؤال بقائها..
وتكون حينها قد أرادت بعضاً من «حقيقة الدولة»..
فكِّرُوا تَصِحُّوا..
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة