لقد تغير معنى العروبة وأخذ أكثر من بعد منذ اكتشاف العرب أهمية الوطنية العربية في واقعهم خصوصاً بعد سقوط الدولة العثمانية
لقد تغير معنى العروبة وأخذ أكثر من بعد منذ اكتشاف العرب أهمية الوطنية العربية في واقعهم خصوصاً بعد سقوط الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى.
فبينما تمثل تركيا الحديثة دولة موحدة للأتراك وغيرها من القوميات، تمثل ايران دولة للإيرانيين من فرس وغيرهم، إلا ان العرب لم يستطيعوا حتى اليوم تشكيل أمة وتحقيق وجود لهم كما وقع مع أمم اخرى وقارات كأوروبا.
الحالة العربية تعيش التحدي الأسوأ منذ ولادة الدول العربية في النصف الأول من القرن العشرين وذلك لضعف التخطيط وسواد المصالح الضيقة وانتشار الفساد وغياب المساءلة ومفهوم المشاركة من الأسفل إلى الأعلى. الحالة العربية هي الأكثر تمزقاً نسبة للحالة العالمية، وهي الأكثر اضطهاداً في الداخل كما ومن قبل الخارج بل والأكثر فرزاً للفئات المتضادة. العرب في كل هذا بين متناقضين: العلاقة مع الخارج (الغرب وإسرائيل) التي تخضع للتبعية وتتحكم بها تلك الهوة الاقتصادية والعلمية والسياسية الكبيرة، ثم من جهة أخرى حالة الاستبداد التي تمزق الإقليم وتساهم في أضعافه.
ويعي العالم المحيط بالعرب بالغريزة السياسية أهمية بقاء العرب منقسمين وضعفاء، ويعي بأن تطورالإقليم سيعيد تنظيم خرائط ويضع حداً لنهب ويخلق نمواً قد يحوله من مكان لتصفية الحسابات إلى عالم يحمي نفسه وشعوبه.
المساحة المسماة عربية والتي تقع بين مصر وشمال أقريقيا وبلاد الشام والخليج العربي مكونة من شعوب متنوعة تخضع في أغلب الحالات لحاجات دول كبرى وقوى مختلفة وأنظمة سياسية هي في جلها غير ديموقراطية وذلك على رغم كل ما وقع في ٢٠١١ وما يقع اليوم. بنفس الوقت تعيش الحالة العربية نزاعاً مكبوتاً في حالات وعلنياً في حالات أكثر مع آمال وطموحات الأجيال العربية الجديدة، الأكثر رفضاً للتحكم الخارجي وغياب الحريات والحقوق الأساسية.
إن الإقليم العربي في محنة.
فالعرب محاصرون في الداخل بفضل حالة مانعة للتقدم والعلم والنهضة التي تمثل العدالة والحريات والحقوق احد مظاهرها، وهم محاصرون من الخارج بفضل صراعات مع الصهيونية واعتماد مبالغ به على الغرب، لكنهم محاصرون بفضل عامل ثالث سيبقى سيفاً مسلطاً عليهم: غياب المشاريع الأوسع التي تتفاعل مع قاع المجتمع وتخلق حالة من حالات التفاعل الإقليمي الوحدوي.
فقد ثبت بالتطبيق والتجربة أن العالم العربي متداخل في كل شيء في شروره وخيره وفي سقوطه ونهوضه وحروبه. حتى الربيع العربي الذي انتشر في البقاع العربية كما والثورة المضادة عليه دليل أكيد على وحدة حال العرب في المد كما في الجزر.
في الإقليم العربي تتوافر الحالة الشابة القادرة على إخراجه من حالة التمزق الراهنة. فلا مخرج للعرب من التمزق الراهن إلا بتمكين الأجيال الشابة وإعادة الاعتبار لمكانة العروبة مع تمتينها بروح إنسانية تهتم بالحقوق والعقل وتعتبر الاستقلاليه والحرية والبحث عن المشترك توأمين لا يتحقق أي منهما بلا الآخر.
العروبة كما يمكن فهمها من الصعب فصلها عن الاسلام بقوته التوحيدية ولكن بنفس الوقت الإسلام بمعناه المرن تاريخاً وحضارة، بل الإسلام المتعالي على النزاع المذهبي. العروبة لغة ولسان وتاريخ ومجتمعات مرتبطة عضوياً بسكان الاقليم أكانوا عرباً أقحاحاً أم يتحدثون العربية بينما ينتمون إلى هويات اخرى كالأمازيغية والكردية والأشورية.
فالعروبة هي أيضاً عروبة اللغة والأدب والمعرفة، وعروبة الأمكنة المختلفة التي تتضمن هزائم وانتصارات وأماني وإحباطات وهي عروبة القوميات غير العربية في العالم العربي. العروبة التي خضعت للاستعمار من المحيط للخليج وخاضت صراعات طويلة من أجل الاستقلال وأفرزت شخصيات كناصر وعبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري والثورة العربية الكبرى في ١٩١٦ وعشرات غيرهم، هي ذاتها التي تواجه اليوم أكبر تحدياتها التاريخية.
تبدو العروبة في جانب منها خيالاً لا مكان له في عالم التمزق العربي، وبالفعل العروبة خيال في عالم يتضمن العديد من الدول العربية التي تتصارع مع بعضها بعضاً و تسقط ارضاً نتيجة فشل اداري وسياسي.
ولكن كثيراً ما تبرز محاولات التصحيح وحركات التاريخ من الخيال، فالذي سمح للدولة الإسلامية ( داعش) بإنشاء دولة وإقامتها في قلب العراق وسوريا يحمل من الخيال ما لا يحمله التحليل، حتى عندما نقيّم ونفكر في مدرسة كالإخوان المسلمين او القوميين العرب والبعث فقد جاءت من الخيال بأكثر من التحليل الطبيعي لسير الأحوال.
وقد برزت الصهيونية من وحي الخيال المبالغ به. لهذا لا يوجد ما يمنع العروبة من شحذ الخيال التاريخي الذي يحرك التاريخ والسكان، فكل فكرة خرجت من خيال أصحابها، وكثيراً ما برزت الأماني وتطور الخيال من قصة اضطهاد متكررة وخسائر مستمرة.
كان بإمكان العرب تفادي التطرف الذي ينتشر في دولهم ومجتمعاتهم لو أن دولاً عربية عدة أنشأت سوقاً جادة وحالة منصفة للمواطن في مجال الرقابة والشفافية والمشاركة، لو أن الدولة فكرت أبعد من حدودها سلماً وتنمية(بخاصة في زمن الوفرة المالية)، فبحثت عن التنسيق ثم التكامل بعيداً عن السياسات الأمنية المسيطرة على كل نخبة.
الروح الأمنية نقيض الوحدة بل هي السبب الأهم في ابقاء مشروع بأهمية مجلس التعاون الخليجي في إطاره المحدود منذ ثمانينات القرن العشرين. المشاريع التي تنشأ بسبب الخوف فقط أو بسبب الحفاظ على وضع قائم ولا تحمل رؤية للتغير التراكمي للمستقبل والشعوب من الصعب ان تتجاوز التعامل من الأعلى الذي يبقى كل شيء في حضن ردود الفعل المتسرعة وغير المدروسة.
الاستبداد في الإقليم يفرض نفسه كحجر عثرة امام كل تقدم وتطور. فالاستبداد سياسة موجهة ضد الحريات والنقد، وضد التجديد والتطور والدولة والعدالة وذلك لمصلحة رؤية ضيقة في السراء والضراء. الأصل بالنسبة إلى الاستبداد هو المنع، بينما في الحضارات الأكثر حرية سنجد أن الأصل هو التعبير والسعي والابتكار بينما الاستثناء هو المنع.
هذا عنى في التطبيق العملي قيادة الإقليم لصدام ضمني وعلني مع قطاع كبير من المواطنين، فقوانين المنع لا تمس كل النخب السياسية إلا في حدود، بل تتواجه بالأساس مع بسطاء الناس، ومع الثقافة والمثقفين، ومع الشبان/الشابات، مع فئات بأمكانها ان تكون قوى محركة للتاريخ ومفيدة للتطور. لهذا يبدو التاريخ العربي في العقود القليلة الماضية وكأنه متوقف في المكان والزمان.
لقد فتح الاستبداد باباً كبيراً للتطرف وذلك بحكم أن التطرف يتطلب عقولاً تشعر بنقص العدالة والحرية بينما تتقبل كل فكرة مسبطة مهما كانت جنونية. السقف الذي سقط في الغرب عبر عقود بل وقرون من التنمية والصراع من أجل الحقوق والحريات والضمانات هو الذي حمى اجيالاً عدة من التطرف، لكن السقف الذي يتعرض له العرب ممن يحاكمون بتهم الحراك السياسي والنقد السياسي والديني والأدبي وغيره يدفع قطاع منهم للتطرف أم للهجرة.
في هذا تتحول سيطرة الماضي على الحاضر وسيطرة السلطة على المجتمع كما وقدرة السلطة على مصادرة الدولة وقضائها في ظل انتشار نفوذ الغرب إلى ينبوع دائم للتطرف. لكن هذا التطرف هو الوجه الآخر الذي يعكس غياب المشروع العربي الناضج والعادل القادر على استيعاب طاقات المجتمع العربي وسنن التغير في صفوفه.
لنتخيل مصر تنطلق مجدداً على يد نخبة جديدة ومختلفة من جيل شاب ومجدد، تحلم بحالة مختلفة عن العشوائيات والفساد والارتجال وغياب العدالة وسيطرة التبعية ومهادنة الصهيونية. لنتخيل أن مصر تحظى بقوة دفع شابة نحو استقلال سياسي واقتصادي تجاه التبعية وتجاه تكافؤ الفرص والعدالة والحريات.
لكن هل من نهضة لمصر بلا تبني المشروع العربي وتبني ما يساهم بالتنمية والتطوير والتنوير بصفتهم مداخل لنمو الإنسان المصري والعربي وتحسين قدراته؟ ألا تتوالد قدرات الإنسان التنموية مع الحرية والكرامة والعدالة والثقة؟ وهل هذا ممكن بلا إلغاء كامب ديفيد المكبل لمصر والذي تجاوزه الزمن؟ كانت مصر في تاريخها العريق تتجه نحو السودان ونحو المشرق والخليج. لكن هذا توقف، فهي اليوم مجال واسع لتعميق الديون، وللمساعدات الترقيعية التي لا تحتوي على الحد الأدنى من الرؤية التنموية للمجتمع والإنسان، اصبحت مصر متلقية تعيد انتاج واقع يزداد بؤساً وتجارة تزداد استغلالاً لشعبها في ظل حالة من العسكرة في الداخل، وهذا حتماً في شكله الراهن لن ينتج إلا مزيداً من الهبوط والأزمات. إن وضع مصر الراهن جزء أساسي وجوهري من الاضمحلال الذي يمر به العالم العربي في مجال الاقتصاد كما وفي الإدارة والمعرفة وفي العدالة وفي الحريات.
لن يخرج العالم العربي من محنته بلا خيال سياسي جديد، بلا حركة تشمل كل بقاعه فتعظم مضمون الحرية والاستقلال والنزوع نحو بناء واقع مختلف تجاه شعوبه وامتداداته. الحالة العربية تتطلب حركات عابرة للقارة العربية، فإن كانت الداعشية عابرة للقارة العربية وإن كان التطرف هو الآخر عابراً للإقليم العربي بل وللعالم، وإن كان الاستبداد هو الآخر والفقر والظلم عابراً لكل القارة العربية، فماذا يمنع أن تكون العروبة وتوأمها الإسلام بمضمون إنساني وحقوقي ومستقبلي ونهضوي هي الاخرى مشروع عابر لكل الإقليم. وسط حروب العرب وسيطرة لغة التعصب والكراهية والتخوين والقتل نحن أحوج ما نكون للخيال الثقافي والسياسي الإنساني المجدد.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة